يحوم شبح الأزمة المالية لعام 2008 في الأسواق العالمية. الكل يعيد ذكريات الانهيار الكبير، ويربطها بإفلاس بنك "سيليكون فالي" (SVB) الأميركي العريق الذي يمثل أكبر عملية إفلاس في الولايات المتحدة منذ إغلاق بنك واشنطن ميوتشوال للادخار قبل 15 سنة.
يشعر مؤسسو الشركات الناشئة في ولاية كاليفورنيا بالذعر بشأن الوصول إلى أموالهم الضخمة في البنك التي تزيد على 175 مليار دولار، ودفع رواتب الموظفين. وصلت مخاوف العدوى إلى كندا والهند والصين.
في المملكة المتحدة، من المقرر إعلان تعثر فرع SVB، وقد توقف بالفعل عن التداول، ولم يعد يستقبل عملاء جدداً. يوم السبت، أرسل قادة ما يقرب من 180 شركة تكنولوجية خطاباً يطالبون فيه وزير الخزانة البريطاني جيريمي هانت بالتدخل. وقالوا في الرسالة التي اطلعت عليها "بلومبيرغ": "فقدان الودائع لديه القدرة على شلّ القطاع. ستُصَفىّ العديد من الشركات قسراً بين عشية وضحاها. ستبدأ هذه الأزمة يوم الاثنين، لذا ندعوكم لمنعها الآن".
وهذه ليست سوى البداية، إذ إنّ للبنك الأميركي فروعاً في الصين والدنمارك وألمانيا والهند وإسرائيل والسويد، وتؤكد التحذيرات أنّ فشل البنك سيقضي على عدد كبير من الشركات الناشئة، بخاصة التكنولوجية، في جميع أنحاء العالم في حال عدم تدخل الحكومات.
تؤكد التحذيرات أنّ فشل البنك سيقضي على عدد كبير من الشركات الناشئة، بخاصة التكنولوجية، في جميع أنحاء العالم في حال عدم تدخل الحكومات
وقصة انهيار البنك التي صعدت للعلن يوم الجمعة لا تنفصل عن الأزمة التي يواجهها الاقتصاد العالمي، والتي اتسعت مع إغلاقات كورونا، وترسخت مع الحرب الروسية على أوكرانيا. السبب الأساس للانهيار كان قيام البنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي برفع أسعار الفائدة وإفساد شهية المستثمرين للمخاطرة وتراجع قيمة السندات التي يستثمر فيها بنك وادي سيليكون نحو 92 مليار دولار.
فقد رفع الفيدرالي أسعار الفائدة من مستوياتها القياسية المنخفضة نحو 8 مرات منذ العام الماضي، في محاولة لمكافحة التضخم. وعادة، تقل شهية المستثمرين للمخاطرة عندما تصبح الأموال المتاحة لهم باهظة الثمن بسبب الفائدة المرتفعة. ارتفاع أسعار الفائدة كبد البنك المنهار خسائر بلغت نحو 15 مليار دولار تمثل قيمة تراجع تلك السندات التي يحوزها في محفظته. أثر ذلك بالشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا، وهم العملاء الأساسيون لبنك وادي السيليكون، لأنه جعل مستثمريهم أكثر عزوفاً عن شراء الأسهم.
نظراً لأن أسعار الفائدة المرتفعة سببت إغلاق سوق العروض العامة الأولية للعديد من الشركات الناشئة وجعلت جمع الأموال الخاصة أكثر تكلفة، بدأ بعض عملاء بنك وادي السيليكون بسحب الأموال لتلبية احتياجاتهم من السيولة. وعجز البنك عن تلبية تلك الاحتياجات.
لتمويل عمليات السحب هذه، باع بنك وادي السيليكون الأربعاء محفظة سندات بقيمة 21 مليار دولار تتكون في الغالب من سندات الخزانة الأميركية. إلا أن هذه المحفظة حققت في المتوسط عائداً بـ1.79 في المائة، أي أقل بكثير من عائد سندات الخزانة الحالي لأجل 10 سنوات والبالغ حوالى 3.9 في المائة.
واقع، أجبر البنك على الاعتراف بخسارة قدرها 1.8 مليار دولار، التي احتاجتها لسد زيادة رأس المال. صاحب ذلك تدفق المودعين على مقار البنك لسحب ما يقرب من 42 مليار دولار في نهاية الأسبوع.
لتدارك الأمر، اختارت إدارة البنك، بمساعدة استشارية من بنك غولدمان ساكس، جمع رأسمال جديد من بيع أسهم شركة رأس المال الاستثماري "جنرال أتلانتيك"، وكذلك بيع سندات قابلة للتحويل للجمهور، وذلك بقيمة 2.25 مليار دولار لسد فجوة التمويل.
باع بنك وادي السيليكون الأربعاء محفظة سندات بقيمة 21 مليار دولار تتكون في الغالب من سندات الخزانة الأميركية
إلا أنه أنهى التداول بأسهمه في اليوم ذاته بانخفاض نسبته 60 في المائة، حيث خشي المستثمرون من أن عمليات سحب الودائع قد تدفع البنك إلى زيادة رأس المال.
الهبوط هذا عزز ذعر المستثمرين، الذين تدافعوا لبيع أسهمهم بكثافة، وكذلك بما أن معظم عملاء البنك لديهم أكثر من 250 ألف دولار في حساباتهم، وهو الحد الأقصى الذي تعيد السلطات الأميركية تسديده عادة في حال الإفلاس، حاول العديد منهم سحب أموالهم، ما سرّع انهيار المصرف.
حاول البنك يوم الجمعة إيجاد تمويل بديل، بما في ذلك بيع الشركة. في وقت لاحق من اليوم نفسه، أعلنت المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (FDIC) إغلاق البنك ووضعه تحت الحراسة القضائية الخاصة بها، وقالت إنها ستسعى لبيع أصول SVB وأنه قد تُدفَع توزيعات الأرباح المستقبلية للمودعين غير المؤمن عليهم.
قد يكون البنك ومستشاروه قد ارتكبوا أيضاً خطأً تكتيكياً، وفقاً لـ"نيويورك تايمز"، فقد كان من الممكن أن يكتمل استثمار أسهم "جنرال أتلانتيك" بين عشية وضحاها، لكن إدارة البنك اختارت أيضاً بيع الأسهم المفضلة القابلة للتحويل، التي لا يمكن بيعها حتى اليوم التالي.
وقد أتاح ذلك الوقت للمستثمرين، والأهم من ذلك، العملاء، بأن تتزايد شكوكهم وحيرتهم، ما أدى إلى نزوح جماعي للودائع. وتعتبر الصحيفة الأميركية أنه يبدو أنه كان من الممكن تجنب الانهيار، فقد حدث ذلك لأن الإدارة أخطأت في كيفية تواصلها مع عملائها والجمهور، وخلقت فراغاً في الثقة.
وتضاعفت ودائع البنك أكثر من أربع مرات خلال أربع سنوات (من 44 مليار دولار في 2017 إلى 189 ملياراً نهاية 2021)، فيما نمت قروضه التي يقدمها إلى الشركات الناشئة من 23 مليار دولار إلى 66 ملياراً، ومع تغير العالم وارتفاع أسعار الفائدة مع ترسخ التضخم وانخفاض أسعار السندات، أصبح البنك مكشوفاً بشكل فريد، وخفض العملاء ودائعهم من 189 مليار دولار نهاية عام 2021 إلى 173 ملياراً في نهاية عام 2022.
وعانى البنك من تركيزه على نوع محدد من العملاء، فقد كان يموّل بصورة رئيسية شركات في مجالي التكنولوجيا والتكنولوجيا الأحيائية المرتبطة بالصحة، وكان جزءاً من بيئة رأس المال يسيطر عليه المخاطر، لكن بين رفع معدلات الفائدة الذي سبّب ارتفاع كلفة القروض، وصعوبات قطاع التكنولوجيا نفسه، سحب عملاء المصرف الكثير من الأموال في الأشهر الأخيرة.
وأدت أزمة بنك وادي السيليكون إلى صداع جديد يهز القطاع التكنولوجي في العالم، إذ يتدافع قادة التكنولوجيا في آسيا لتقييم التداعيات المحتملة. في سنغافورة، شارك الممولون ورجال الأعمال في تجمّع كبير للحديث عن التداعيات، بينما تحدث مؤسسو الشركات الناشئة والمستثمرون في مؤتمر في مومباي عن الأمر.
عانى البنك من تركيزه على نوع محدد من العملاء، فقد كان يموّل بصورة رئيسية شركات في مجالي التكنولوجيا والتكنولوجيا الأحيائية المرتبطة بالصحة
وقال المحللون بقيادة ليو تشنغ نينغ من شركة تشاينا إنترناشونال كابيتال كورب في مذكرة: "لا ينبغي التقليل من تأثير حادثة SVB بصناعة التكنولوجيا. الودائع ضرورية للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا لأنها تتطلب عموماً الكثير من المال لدفع النفقات الباهظة، بما في ذلك تكاليف البحث والتطوير ورواتب الموظفين".
وتابعوا: "إذا تبخرت الودائع النقدية في عملية الإفلاس أو إعادة الهيكلة، فقد تواجه بعض شركات التكنولوجيا توتراً شديداً في التدفق النقدي. لا ينبغي استبعاد مخاطر الإفلاس".
ووقف عملاء SVB في كاليفورنيا، وكثير منهم من مؤسسي الشركات الناشئة، خارج فرع البنك في شارع ساند هيل الشهير في وادي السيليكون في البرد وتحت الأمطار يوم الجمعة، وطرقوا الأبواب الزجاجية المغلقة وحاولوا إقناع ممثلين عن المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع بسحب أموالهم.
أشار مؤسس شركة كيكو الناشئة التكنولوجية، ألكسندر فيتزجيرالد، إلى أن الموارد المالية للشركات الناشئة البريطانية مستنفدة بالفعل بسبب التباطؤ في سوق تمويل رأس المال الاستثماري. وقال: "الشركات البريطانية الناشئة بحاجة إلى وزارة الخزانة للتدخل بسرعة".
في كندا، أفاد فرع البنك المنكوب عن وجود 314 مليون دولار في شكل قروض مضمونة العام الماضي، أي ضعف مبلغ 212 مليون دولار كندي في العام السابق، كما تظهر الإيداعات التنظيمية.
وامتدت التأثيرات على سوق العملات المشفرة، آخرها فقدان العملة المشفرة الأميركية "سيركلز كوين" المربوطة بالدولار من قيمتها إلى 87 سنتاً، بعدما كشفت الشركة أن لديها ما يقرب من 8 في المائة من احتياطياتها البالغة 40 مليار دولار المقيدة في بنك وادي السيليكون المنهار.
ويسيطر سؤال "من التالي؟" على أحاديث المستثمرين وتقارير المحللين، وسط استبعاد تكرار سيناريو عام 2008، إلا أنه بحسب موقع فوريكس لايف التحليلي، سيستمر الخوف الاثنين في جميع الأسواق، إلى أن يوجَد حل للمودعين بالبنك.