تحوّل مشروع العاصمة الإدارية الجديدة في مصر من أيقونة يتفاخر بها النظام إلى ثقب أسود يتلقى السهام من كل حدب وصوب، بينما تقف الحكومة عاجزة عن إحداث نقلة نوعية به، في وقت يتزايد فيه الهجوم على المشروع محلياً ودولياً، بعد تأكيد صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية إنفاق 59 مليار دولار على منشآت فاقمت من هشاشة الاقتصاد المصري وسوء الأحوال المعيشية للمواطنين.
وجهت الحكومة المصرية بتجديد مقري مجلس النواب والشيوخ التاريخيين، وسمحت لوزارة المالية بإعادة تطوير مكاتبها وسط العاصمة، مطلع الشهر الجاري، بعدما تأكدت صعوبة نقل الموظفين الحكوميين والعاملين والنواب بالبرلمان إلى مقارهم بالعاصمة الإدارية.
تؤكد مصادر "العربي الجديد" أن وزارة المالية فشلت في تدبير إيجار المقرات الحكومية، تبلغ قيمتها 203 ملايين دولار سنوياً، في ظل الأزمة المالية الحالية. التزم الوزراء بوجودهم لبعض الوقت في مكاتبهم بالعاصمة الجديدة بعدد محدود من الموظفين إلى حين توصل الحكومة إلى الحلول المالية مع إدارة العاصمة والشركاء الأجانب المالكين لأصول تلك المباني، بسبب عدم وجود بنود في الموازنة العامة تسمح بتأجير أو شراء مستلزمات للمكاتب الحكومية والعامة خلال العام المالي الحالي.
كما انتقلت وزارة العدل ومكتب النائب العام وقيادات الأجهزة المعاونة والإدارات الرئيسية من وسط القاهرة إلى مقر جديد، بالتجمع الخامس، على طريق السويس. وتتابع المصادر أن وزارة الداخلية وقادة الأفرع الرئيسية تركوا مقراتهم في وسط القاهرة، مع تسليم تلك الأصول للصندوق السيادي، للعمل من مقرها الدائم بجوار كلية الشرطة على الطريق الدائري والقاهرة الجديدة، واحتفظت باقي الوزرات بمكاتبها المنتشرة وسط العاصمة وشرقها.
مخاطر تواجه المشروع
أدى تأجيل افتتاح المشروع، للعام الثالث على التوالي، إلى تأجيج غضب المواطنين من فرض التقشف من جهة، بينما تتزايد النفقات العامة من جهة أخرى على مدينة سيكون الوجود بها مقتصراً على زمرة الحكم وذوي الدخول العليا من شرائح المجتمع، كما ركزت الصحافة الدولية على المخاطر التي تواجه المشروع.
اتهمت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير مطول، مشروع العاصمة الجديدة بأنه تسبب في أزمة اقتصادية وخيمة على البلاد، متسائلة: "ترتفع عاصمة جديدة لتسحق شعب الفراعنة ولكن بأي ثمن؟".
أوضح ديكلين وولش، مدير مكتب الجريدة بمنطقة الشرق الأوسط، في التقرير، أن "اقتصاد مصر في ورطة مرة أخرى"، لأن الحكومة اقترضت بكثافة لتمويل مشروعها العملاق، في ظل ميزانية هشة، من قبل الغزو الروسي لأوكرانيا ولا تجني الدولة سوى القليل لتغطية ديونها، وابتعد المستثمرون الأجانب خوفا من قبضة الأمن على الاقتصاد، وعدم التركيز على الصناعة المحلية، بما أدى إلى انكماش القطاع الخاص غير النفطي لما يزيد عن عامين، واللجوء إلى تمويل المشروع من الصين وبيع سندات ذات فائدة مرتفعة مكلفة لمصر، ستسدد خلال السنوات المقبلة.
وأشار التقرير، الذي نشر منذ أيام، إلى الارتباك في إدارة الموازنة العامة بعد الحرب بما أدى إلى تعديل نظام الدعم على المواطنين، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وأمرت الحكومة مراكز التسوق والأندية والمرافق العامة بترشيد النفقات وتعتيم الأضواء، لتتمكن من بيع المزيد من الطاقة للخارج، في ظل انخفاض مستويات المعيشة وحرمان ملايين المصريين من توليد فرص عمل، والحصول على إسكان اجتماعي يفيد غالبية المواطنين.
ويرصد معهد الشرق الأوسط للدراسات بواشنطن، في تقرير نشره مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، ارتفاع الدين الأجنبي من 40 مليار دولار إلى 158 مليار دولار خلال 8 سنوات، بسبب "زيادة الاقتراض الحكومي للمشروعات القومية التي تتعلق أغلبها بالعاصمة" والمرافق والخدمات والطرق المؤدية إليها، والمشروعات المكملة في الساحل الشمالي.
تكاليف عالية
يرفض المهندس أحمد شعبان، عضو مجلس الشيوخ عن حزب التجمع، القول إن مشروع العاصمة تسبب بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، مؤكدا أنه لم يمثل عبئا على الموازنة العامة للدولة. يقول شعبان في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن البرلمان عندما ناقش الموازنات السنوية خلال الفترة الماضية، لم يرصد أي مخصصات موجهة للمشروع، لأنه قائم على نظام شراكة بين الحكومة بالأرض، مقابل مساهمة الجهات الأخرى بالتمويل والتشييد والتسويق.
يعترف شعبان بأن المشروع مكلف، مستدركا بأن ثماره ستجنيها الأجيال المقبلة، خاصة أن المشروع سيتمكن من سداد قيمته من خلال البيع. لكن شعبان يوضح أن الجزء البسيط الذي مولته الدولة عن طريق بنك الاستثمار القومي، بفوائد بسيطة، سيعود إلى الدولة من خلال تملكها وحدات سكنية وعقارات تتولى بيعها للمواطنين.
ويقر شعبان بأن المواطن يتكبد كلفة باهظة عندما ينتقل إلى العمل أو الإقامة بالعاصمة والمدن الجديدة، مبينا طلبه من الحكومة التوسع في مشروعات "إسكان مصر" الاجتماعي لتوفير الوحدات السكنية للطبقة المتوسطة وغير القادرين، حتى لا تصبح تلك المشروعات قاصرة على إقامة الأغنياء فقط، بينما المدن تحتاج إلى وجود كافة الطبقات. ويقول شعبان: "نعلم أن الأعباء زادت على المواطن كثيرا، فأصبحت لدى الأحزاب قناعة بأن الطبقة الوسطى أصبحت تحت ضغط شديد"، مطالبا بالعمل على كبح الارتفاع في الأسعار أو فرض رسوم جديدة على المواطنين.
شلل تام
يؤكد مسؤولون في شركات عقارية في أحاديث مع "العربي الجديد"، مرور مشروعات العاصمة بحالة من الشلل التام، بدأت منذ مارس/ آذار الماضي، مع فرض قيود على توفير الدولار من البنوك، اشتدت خلال الشهرين الماضيين بسبب عدم استقرار سعر الجنيه مقابل الدولار.
ويقول مجدي مرعي، أحد المطورين العقاريين بالعاصمة الإدارية، لـ"العربي الجديد"، إن الشركات المنفذة لمشروعات حكومية توقف أغلبها عن العمل لعدم وجود سيولة مالية، بالإضافة إلى عدم رفع قيمة العقود من قبل جهة الإسناد بعد ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج بنحو الضعف خلال 6 أشهر، وفقدان الجنيه 25 في المائة من قيمته. يشير مرعي إلى صعوبة استكمال الشركات العقارية أعمالها العامة أو الخاصة بعد تراجع الطلب على الشراء ورفض البنوك إقراض الشركات، مع استمرار البنك المركزي في وضع الاستثمار العقاري والسياحي بقائمة سوداء، حيث يعتبر تلك المشروعات عالية المخاطر.
ويؤكد مرعي أن القروض البنكية المسموح بها حاليا تقتصر على المشروعات المسندة من جهات حكومية مباشرة والهيئة الهندسية للقوات المسلحة، "مع ذلك تجد الشركات صعوبة في العمل، مع ارتفاع أسعار الخامات وثبات قيمة العقود السائدة قبل الحرب".
ويقول مرعي إن سعر المتر المربع بالمناطق السكنية المتوسطة بالعاصمة يراوح ما بين 15 و18 ألف جنيه، والإداري ما بين 25 ألفاً و40 ألف جنيه، والتجاري ما بين 90 ألفاً و250 ألف جنيه للمتر، حسب الموقع ونوعية التجهيزات بالعقار، مع ذلك فإن حركة البيع والشراء متوقفة تماما، بسبب الغلاء والركود ورغبة المشترين في الإقبال على مشروعات جاهزة، لخوفهم من المغامرة بشراء مشروعات ما زالت في إطار الخطط.