- تصرفات السيسي تعكس تجاهلًا للسلطات التشريعية والرقابية في مصر، مع إشرافه الشخصي على صندوق مصر السيادي ونقل أصول حكومية له، مما يثير تساؤلات حول الشفافية والمحاسبة.
- تبرز مخاوف بشأن غياب الشفافية والمساءلة في إدارة الأموال العامة، خصوصًا مع صندوق مصر السيادي الذي يفتقر للرقابة البرلمانية والتمثيل المجتمعي، مما يؤكد على أهمية تعزيز الممارسات المحاسبية والمراجعة المستقلة.
بعيداً عن الأعراف الدولية، والمحددات الدستورية، وما يفترض أن تجري عليه الأمور عند تخصيص الأموال في القرن الحادي والعشرين، وجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الحكومة، خلال احتفال نقلته قنوات التلفزيون على الهواء الشهر الماضي، بتخصيص مبلغ 10 مليارات جنيه (نحو 323 مليون دولار) لصندوق "قادرون باختلاف" المخصص لذوي الإعاقة، من الأموال التي حولتها دولة الإمارات إلى البنك المركزي المصري كدفعة أولى لتمويل مشروع مدينة رأس الحكمة.
وقال السيسي مخاطباً رئيس حكومته مصطفى مدبولي، في حفل لتكريم الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة: "لازم نأخذ هبرة من أموال رأس الحكمة، ونضعها في صندوق قادرون باختلاف"، وكأن أموال رأس الحكمة، التي لم نعرف حتى الآن إن كانت شراءً للأرض أو تأجيراً أو حق انتفاع، ولم نعرف الكثير من التفاصيل عنها، جزء من "إيرادات الدولة"، وليست استثماراً من جهة أجنبية، موجه لمشروع بعينه.
وبالأسلوب نفسه، وجه السيسي بتخصيص 10 مليارات جنيه أخرى لصندوقي تنمية الأسرة وكبار السن. وحصل ذلك في إعلان مباشر من الرئيس، على الهواء أيضاً، في أثناء إلقاء كلمته في احتفالية يوم المرأة المصرية والأم المثالية.
ومع ضخامة المبالغ المخصصة دون عرض على ما يعرف باسم "البرلمان المصري"، لم تكن هاتان الواقعتان بداية لتجاهل رأس السلطة التنفيذية في مصر للسلطات التشريعية والرقابية، حيث سبق له وأعلن إشرافه "وحده" على صندوق مصر السيادي، قبل أن يشرع بنقل أصول حكومية بمليارات الجنيهات إليه.
وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، نقل الرئيس المصري ملكية 13 وزارة وجهة حكومية بوسط القاهرة إلى صندوق مصر السيادي، وكان أبرزها المقرات الرئيسية لوزارات الخارجية، والداخلية والعدل، والتعليم، والصحة، والنقل، والمالية، وذلك بعد انتقال تلك الوزارات للعمل من العاصمة الإدارية الجديدة.
وأسست الحكومة المصرية صندوق مصر السيادي عام 2018 لجذب الاستثمارات للأصول المملوكة للدولة، بهدف معلن هو "زيادة قيمة تلك الأصول ومردودها على الاقتصاد المصري".
وبعد عامين، نقل السيسي سبعة أصول لملكية الصندوق، شملت أرض مجمع التحرير ومبناه، والمقر الإداري لوزارة الداخلية، وأرض الحزب الوطني المنحل، ومباني القرية الكونية، ومعهد ناصر الطبي، وأرض حديقة الأندلس بمدينة طنطا.
ولا يخضع صندوق مصر السيادي للمستوى نفسه لمتطلبات الإفصاح العام للشركات المدرجة في البورصة، وهو ما يعني أن تعاملاته قد لا تخضع لمراجعات إلزامية من قبل شركات المحاسبة الخارجية، وأن أي مراجعات لضمان الإدارة المالية السليمة لا تتم من قبل شركات خارجية مستقلة.
وبخلاف غياب المحاسبة الخارجية، لا ينشر الصندوق معلومات كافية عن استثماراته أو ما تحقّق من عوائد على تلك الاستثمارات، وهو ما يبعث الكثير من الشكوك في الكيفية التي من خلالها تُدارُ أمواله، ويحدّ من القدرة على التحقق من صحة بياناته المالية.
أيضاً لا يوجد تمثيل كافٍ للمجتمع المدني في مجلس إدارة الصندوق، ولا يوجد إطار قانوني واضح يحكم عمله، ما يثير تساؤلات عن صلاحياته ومسؤولياته، في وقت لا يخضع فيه الصندوق لرقابة برلمانية كافية، رغم المليارات التي يتعامل فيها من أموال الدولة.
الخلاصة أن هناك العديد من المخاوف بشأن إمكانية وجود حالات فساد داخل الصندوق، خصوصاً في ظل غياب الشفافية والمساءلة، وأخذاً في الاعتبار أنه لم تُجرَ أي تحقيقات مستقلة في مزاعم الفساد المتعددة.
السعي لفرض الممارسات المحاسبية الصحيحة والتأكد من خضوع مؤسسات الدولة التي تتحكم في مبالغ ضخمة تخص المصريين لا يقلل من شأن القائمين على تلك المؤسسات، ولا يعني بأي حال التشكيك في نزاهتهم، وفي أغلب الأحيان تمثل الرقابة الحقيقية على المؤسسات حماية للقائمين عليها.
وإجراء المراجعة للشركات المملوكة للدولة، وما في حكمها، أمر بالغ الأهمية، لأن تلك الشركات تستخدم أموال دافعي الضرائب. ولا يمكن ضمان استخدام هذه الأموال بمسؤولية ووفقًا للقواعد إلا من خلال عمليات المراجعة التي ينبغي أن تقوم بها، أو تعتمدها، جهات خارجية (من خارج الشركة أو الصندوق، لا من خارج الدولة).
وتعزيز الشفافية في كيفية إدارة الأصول العامة، وفي كيفية إنفاق الموارد العامة، لا يمكن تحقيقه إلا من خلال كشف أي إساءة استخدام أو سوء إدارة، وهذا لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال عمليات المراجعة والمحاسبة التي اصطلح العالم على تطبيقها، ولا يوجد في مصر أي سبب أو منطق يبرر تغييبها.
وتُقَيِّم عمليات المراجعة مدى كفاءة تشغيل المؤسسات المملوكة للدولة، فتحدد المجالات التي تحتاج إلى تحسين الأداء، حتى يمكن لها تحقيق أهدافها، وبما يعظم إيرادات الدولة، ويساهم في تحسين حياة الملايين من المواطنين المستقبلين للخدمات التي توفرها لهم.
وتعزز عمليات المراجعة المستقلة والمنتظمة ثقة الجمهور بإدارة الحكومة لشركاتها، وفي إدارة الصندوق السيادي للأصول التي تُحوَّل إليه. وأيضاً تقدم عمليات المراجعة رؤى قيّمة لصانعي السياسات، حيث يمكنهم استخدام نتائج تلك المراجعات لاتخاذ قرارات مستنيرة بشأن تخصيص الأموال، وإعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة، أو إدخال سياسات جديدة.
منذ أكثر من خمسة قرون، استقر العالم على استخدام طريقة "القيد المزدوج" في تسجيل المعاملات التجارية كافة، بحيث لا يُنفَق أي مبلغ دون أن يؤثر هذا المبلغ في حسابين فرعيين، فيحسم من النقدية المتاحة، بينما يضيف إلى الموجودات غير النقدية، أو يمثل "إنفاقاً" يقلل من ربحية الشركة.
وبالمنطق نفسه، لا يمكن تحويل أصل أو مبلغ لحساب أو جهة معينة دون الإشارة بوضوح إلى الحساب أو الأصل الذي تأثر سلبياً بهذا التحويل.
فهل يمكن تطبيق ذلك على تعاملات الصناديق الكثيرة التي تتحرك بينها مليارات الجنيهات المصرية، فنعرف الحساب الذي تأثر "سلباً"، بالمعنيين، بتحويل 20 مليار جنيه بكلمة، أو بالأراضي والشركات التي تُحوَّل إلى جهة سوداء، لا رقيب عليها ولا حسيب.