السوريون في زمن الكوليرا

20 سبتمبر 2022
مريضة بالكوليرا تحت العلاج في أحد مشافي حلب (فرانس برس)
+ الخط -

فيما لو تم تخيير الجائع بين تناول سلعة قد تصيبه بمرض وبين الاستمرار بالجوع، فعلى الأرجح سيتناول السلعة ليسكت عواء ذئاب معدته على أمل عدم الإصابة بالمرض، لطالما "قد" التي أدخلت على الفعل المضارع أثناء تخيير الجائع، تأتي حرف تقليل.

وعلى الأرجح، في حالة كالتي يكابدها السوريون، سيختار الجائع تناول السلعة، وإن كان "قد" حرف تحقيق، ألا يفعلها السوريون منذ سنوات، فيأكلون سلعاً مجهولة المصدر وأخرى مخالفة للمواصفات، وتشهد أسواق اللحوم المفرومة، مزرقّة اللون، بسوق المرجة بالعاصمة دمشق، إقبالاً، فقط لتدني أسعارها، رغم جميع التحذيرات والمخاطر الصحية؟

بل وأوصل نهج تجويع السوريين للمخاطرة بما هو أبعد من تناول سلع مخالفة أو مشكوك بحملها جرثومة الكوليرا، من خلال بحثهم بحاويات القمامة عمّا يسد رمقهم ويسكت جوعهم، وليس ذلك تشهيراً بنظام عاجز عن تأمين كفاية الشعب، بقدر ما هو واقع منتشر بعاصمة الأمويين وتتناقله الكاميرات، بل وأدى أخيراً لموت أطفال بعد تهاوي مكبات القمامة التي تحولت لمصادر رزق، خلال البحث عن فضلات الطعام، أو تجارة المعادن والبلاستيك والمواد التالفة بغرض التدوير.

فما الذي سيبدله "زمن الكوليرا" بنمط السوريين الغذائي بعدما جربوا جميع صنوف التجويع وتحوّلت أسواقهم لبيئة جاذبة للمنتجات المخالفة وسكراب للمعدات والآلات التي يجود بها الحلفاء، إن من طهران أو موسكو أو الصين؟

أليس من الممكن، رغم وجع السؤال، أن يكون بانتشار الكوليرا بسورية اليوم رحمة لبعض الفقراء ليتمكنوا من تناول الخضر والفواكه، بعد حرمانهم منها أو شرائها بالحبة؟

فأن يكسر "الوباء" المنتشر اليوم الأسعار بأكثر من 50% ويقلل الطلب، بعد تعميم مديريات الشؤون الصحية بالمحافظات بإغلاق المحال والمطاعم إن قدمت الخضر والورقيات، ففي ذلك رحمة ربما للعاجزين عن الشراء في زمن ما قبل الكوليرا.

قصارى القول: تتوالى أعداد الإصابة بالكوليرا ارتفاعاً وتزيد حالات الوفيات بسورية، ما دفع الأمم المتحدة "مشكورة" للقلق والطلب إلى الدول المانحة تأمين المزيد من التمويل العاجل لاحتواء تفشي الوباء ومنعه من الانتشار.

ليعرّي الوباء، ضمن ما عرّى، زيف الادعاءات الأممية بحجم المساعدات، في وقت كشف فيه وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ مارتن غريفيث أن خطة الاستجابة الإنسانية الخاصة بسورية، والبالغة 4.4 مليارات دولار، لم يتم تمويلها إلا بنسبة 25% فقط، كما أن خطة الأمم المتحدة الإنسانية المتعلقة باللاجئين السوريين، والبالغة 6.1 مليارات دولار، لم تتم تغطيتها حتى الآن سوى بحوالي 20%، في سياق ما كشفه المسؤول الأممي عن حاجة 14.6 مليون شخص داخل سورية، أكثر من نصفهم أطفال، للمساعدات الإنسانية.

وتمتد التعرية إلى تهالك البنية التحتية الصحية بسورية الأسد، وقت عجزت المشافي عن استقبال وعلاج المصابين، وتعرّج على قلة المياه وتلوّث مياه الشرب، بعد تراجع مناسيب المياه الجوفية وكميات تدفق حصة سورية من مياه نهري دجلة والفرات الآتية من تركيا، ولا تتوقف عند حدود سقاية المزروعات، المستهلكة محلياً أو المصدرة للأشقاء في دول الخليج، من مياه الصرف الصحي، ليصح بعد سلسلة التعرية القول: ربّ ضارة كاشفة ونافعة.

نهاية القول: الغرق بالنتائج والدوران بحلقات العقابيل المفرّغة، من دون البحث عن الأسباب واستئصالها، هي السمة الأبرز للتعاطي الدولي مع قضايا السوريين.

فأن يتم التحذير من غرق السوريين بحراً وموتهم بالغابات هذه الآونة، أثناء هجرتهم اللاشرعية إلى أوروبا، من دون البحث بأسباب التهجير، هي أزمة عدالة وأخلاق دولية.

وأن تشكو الدول المستضيفة للاجئين من دون التطرق لأسباب اللجوء، فهي متاجرة وتحميل اللاجئين وزر فشل سياسات تلك الدول، كما أن الادعاء بالبحث عن حل لجميع مشكلات السوريين التي أرّقت العالم، من دون إزالة سبب جميع تلك المشكلات، بل وبدء إعادة إنتاج وتسويق نظام الأسد المسبب، ففي هذا قمة الانحياز للقاتل ونسف لكل ما يتشدق به القادة والمنظمات الدولية من عبارات الإنسانية والديمقراطية والعالم الحر.

وعود على بدء، فإن الانشغال الأممي، المؤقت على الأرجح، بوصول الإصابات بالكوليرا لألف سوري وضرورة تأمين الدعم والعلاج، هو ملامسة مضللة وحرف عن الأسباب الحقيقية، لأن السوريين يعرفون مصدر سقاية المزروعات بزمن شح المياه، كما يعرف العالم ما يوصل السوريين لتناول تلك المزروعات.

لكن المعرفة المنقوصة أو الاضطرارية لدى الطرفين (على اعتبار الأول يتناول ما يمكنه شراؤه رغم المخاطر والثاني يعرف أن صفر سورية هو نظام الأسد، ولا يمكن للبلاد أن تبدأ بالعد التصاعدي إن لم يزل الصفر) تدفع إلى التعاطي وفق المتاح، فربما تحمل الكوليرا للسوريين، كما حملت نهاية رائعة "ماركيز" وقت تم رفع العلم الأصفر على السفينة وتحقق حلم امتد 50 عاماً.

المساهمون