ما يلفت النظر في نتائج مؤتمر باريس الذي عقد قبل أيام حول السودان، أمران: الأول هو مساعدات فرنسا السخية وحماسها الشديد لمساعدة حكومة عبد الله حمدوك اقتصاديا ونقديا، على الرغم من المشاكل المالية الكبيرة التي تعاني منها حكومة إيمانويل ماكرون جراء تفشي وباء كورنا، والمقاطعة العربية الواسعة للمنتجات والسلع الفرنسية.
والثاني هو خروج حكومة السودان منتشية من نتائج المؤتمر الخيالية على حد وصفها، وإعلانها عن نجاح المؤتمر وتحقيق كل الأهداف المرجوة منه، وأنه، كما تقول، شكل علامة فارقة في مسار الانتقال المعقد نحو ديمقراطية راسخة في البلاد، بل وكشفها عن موافقة الدول المشاركة على شطب نحو 80% من ديون السودان الخارجية.
على المستوى الأول أعلن ماكرون أن بلاده قررت شطب كامل الديون المستحقة على السودان والبالغة نحو خمسة مليارات دولار، كما ستقدم باريس قرضا للخرطوم بقيمة 1.5 مليار دولار لمساعدتها في تسديد متأخراتها من الديون لصندوق النقد الدولي.
وقدم ماكرون مبررا لهذه المساعدات السخية، وهو "تحرير هذا البلد الذي يشهد انتقالا ديمقراطيا من عبء الدين".
فرنسا تقرر شطب كامل الديون المستحقة على السودان والبالغة 5 مليارات دولار، وتقديم قرض بقيمة 1.5 مليار دولار لمساعدتها في تسديد متأخراتها من الديون لصندوق النقد
كما أعلن وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير أن "بلاده ستساعد السودان المثقل بالديون، والذي يخوض عملية انتقال ديمقراطي، في تسديد ديونه من خلال إقراضه 1.5 مليار دولار".
لم يتوقف الأمر على الدعم الفرنسي، فقد دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى القيام بضخ استثمارات جريئة في مستقبل السودان السلمي والمستدام. كما أعلنت عدة دول منها السعودية والنرويج عن تقديم مساعدات وإسقاط ديون مستحقة على السودان.
أما على المستوى الثاني والمتعلق بحالة التفاؤل الشديدة داخل حكومة الخرطوم من نتائج مؤتمر باريس، فقد عبر عنها حمدوك بقوله إنه "سيتم إعفاء السودان من 80% من ديونه الخارجية للدول الأعضاء في نادي باريس وخارجه، بما يعادل 45 إلى 46 مليار دولار من جملة دين البلاد البالغ 60 مليار دولار".
السؤال الأول هنا، لمَ الاهتمام الفرنسي المبالغ به لمساعدة السودان في هذا التوقيت بالذات، رغم أن هذا البلد لم يكن منطقة للاستعمار الفرنسي من قبل، ولمَ لم تقدم باريس كل هذه المساعدات السخية من قبل؟
هل المساعدات مرتبطة بخطوات التطبيع التي اتخذتها حكومة الخرطوم مع دولة الاحتلال قبل شهور، أم لأسباب أخرى تتعلق بمواجهة الإرهاب سواء داخل السودان أو على حدودها خاصة في المستعمرات الفرنسية السابقة؟
وما الفاتورة الضخمة التي سيقدمها السودان لفرنسا وغيرها مقابل هذا الدعم السخي والملفت والذي لم تقدمه دولة بحجم السعودية الدائن الكبير للخرطوم وذات الثقل المالي الضخم والتي وعدت فقط بتقديم منحة هزيلة قيمتها 20 مليون دولار؟
مخاوف من جعل السودان رهينة للدائنين، عبر إغراقه في الديون وتسريع وتيرة الاقتراض، والاعتماد على الخارج في ردم الفجوة التمويلية وعجز الموازنة، وإيصاله سريعا إلى مرحله العجز المالي والتعثر
السؤال الثاني: ما الشروط الخمسة المطلوب من السودان تنفيذها مقابل إسقاط 80% من ديونه الخارجية، هل من بينها تسريع عميات التطبيع مع دولة الاحتلال، أم أن الأمر يتعلق بالدخول في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي تنتهي بتطبيق إجراءات تقشفية عنيفة بحق المواطن، منها إلغاء دعم رغيف الخبز والوقود والمياه والكهرباء وزيادة الضرائب، وخفض عدد العاملين في الجهاز الإداري للدولة مع خفض فاتورة الرواتب والأجور.
وربما يكون الأخطر جعل السودان رهينة للدائنين الدوليين، وفي المقدمة صندوق النقد والبنك الدوليان، عبر إغراقه في أعباء الديون وتسريع وتيرة الاقتراض الخارجي والمحلي، والاعتماد على الخارج في تدبير احتياجاته من النقد الأجنبي وردم الفجوة التمويلية وعجز الموازنة، وبالتالي إيصاله سريعا إلى مرحله العجز المالي والتعثر في سداد كلفة الديون، وقبلها تحميل المواطن فاتورة السداد من دخله المحدود.
يبقى السؤال الثالث والأخير وهو: ما السر في تحول موقف الدائنين الدوليين بشكل جذري تجاه السودان، وعلى سبيل المثال موقف بنك التصدير والاستيراد الأفريقي، والذي سعت حكومة حمدوك من قبل إلى إقناعه بجدولة ديونه وعدم إحالتها للمحكمة، لكنه رفض.
لكن خلال انعقاد المؤتمر فاجأ البنك الوفد السوداني ليس فقط بتأجيل سداد الديون المستحقة، بل بإقرار قرض جديد بقيمة 700 مليون دولار ستوجه حصيلته للحاجيات العاجلة كالكهرباء، بجانب تمويل شراء لقاحات كورونا بمبلغ 22 مليون دولار ستغطي 50% من حاجة البلاد.
الأيام المقبلة قد تكشف للمواطن السوداني بعض هذه الشروط التي تعهدت الخرطوم بتقديمها للدائنين مقابل هذا الدعم السخي سواء من فرنسا أو من نادي باريس، أكبر دائن للبلاد، والذي تمثل ديونه نحو 38 بالمئة من إجمالي ديون السودان البالغة 60 مليار دولار.