السرطان البيروقراطي الذي أهلك اقتصاد مصر

09 يناير 2023
أزمة الديون تعصف باقتصاد مصر (Getty)
+ الخط -

لرائد علم الاجتماع العربي ابن خلدون قولٌ مشهور، كان هو ذاته عنوان الفصل الأربعين في مقدمته التاريخية، سار في الركبان حدّ ابتذاله على غير معناه أحيانًا، هو قوله "في أن التجارة من السلطان مُضرّة بالرعايا مُفسدة بالجباية"، فيما يمكن اعتباره من أوائل التعليقات المؤسَّسَة معرفيًّا عن مخاطر البيروقراطية على الاقتصاد.

والواقع أن ما تعيشه مصر اليوم بعد أكثر من ستة قرون منذ مات ابن خلدون، هو تجسيد لما قاله الرجل من مضار تسلّط البيروقراطية على الاقتصاد والمجتمع، حدّ تحوّلها لسرطان يهلك الحرث والنسل، ونرى أوضح وأبسط آثاره في الفشل اليومي في أبسط مقومات الحياة، وفي التدهور المتزايد للاقتصاد والجنيه المصري، ومعه حياة المصريين وقيمة الإنسان نفسه.

والواقع أن القوة الاستثنائية للبيروقراطية في مصر ليست شيئًا مفاجئًا على الإطلاق؛ بالنظر لكونها إحدى أقدم الدول في التاريخ الإنساني، ومن أكثرها ثباتًا واستقرارًا من الوجهتين الجغرافية والديموغرافية، مما فخر به المصريون دومًا، لكنهم ما زالوا يدفعون ثمنه كذلك.

وإن كان الأمر بالتأكيد لا يعود لمجرد إرث التاريخ البعيد للدولة النهرية بنمطها الشرقي الآسيوي، الذي تتمرّكز البيروقراطية في صُلب تكوينه وقاعدة عمله، بل تراتبت كذلك طبقات تاريخية عدة عزّزت وجود وسطوة تلك البيروقراطية، متضافرة مع ضعف كفاءتها وانحراف دورها الموصوف تبسيطًا كمجرد فساد، لا يعدو في تحليله الأخير أن يكون عَرضًا لتكوين أعمق.

أولى تلك الطبقات الحديثة، دولة التبعية الطرفية التي أعاد الاستعمار إنتاج أنظمة الإدارة الشرقية، ما قبل الرأسمالية، ضمنها، في صورة جديدة تخدم أهدافه وتستبطن وكالته في الهامش التابع؛ لا عجب في تلك المشاعر الغريبة التي يلحظها القاصي والداني في أغلب عناصر تلك البيروقراطية من غلبة افتقادهم أي انتماء حقيقي للشعب، فضلاً عن تعاليهم شبه العرقي عليه؛ حتى كاد البعض يفسّر الأمر باستمرار "التقليد المملوكي" في النخبة الحاكمة المصرية واستشرائه في جنبات البيروقراطية المصرية، وقطاعاتها المميّزة بالأخص.

ثاني تلك الطبقات، "دولة الوكالة الساداتية"، التي أتت ضمن الاستعادة الانفتاحية الشرسة لحالة التبعية الاقتصادية الشاملة أواسط السبعينيات، لتتحالف تلك البيروقراطية، بروابط فاسدة أغلب الوقت، مع رأس المال التجاري رمز المرحلة ورُبانها، مجتمعين معًا تحت عباءة رأس المال الأجنبي وبالتبعية المباشرة لمراكزه؛ ليزداد انفصال تلك البيروقراطية عن شعبها بالمصالح المادية، ومعها انفصالها مصلحيًّا عن أولويات تلك الدولة نفسها؛ وإحالتها لمجرد أداة ووسيط تكسّب مباشر، بما يتطابق والحالة الخلدونية الكلاسيكية للفساد السلطاني، وبما يلتقي بالوصف الحديث لرأسمالية المحاسيب احتكارية الطابع، والفاسدة بالتعريف.

ثالث تلك الطبقات، حالة "الدولة الريعية"، أو دولة الرعوية الكوربوراتية، التي نتجت عن المرض الهولندي الذي ترافق مع الطفرة النفطية بالمنطقة، التي تزامنت مع الانفتاح الساداتي المذكور؛ ليصيب مصر فقيرة الموارد بـ "لعنة موارد" عبر تحويلات العاملين بالخارج، متضافرة مع الريوع الجيوبوليتيكية والنوعية الأخرى، في مفارقة تاريخية صاغت مسار مصر الاقتصادي والسياسي كاملًا طوال نصف القرن المنصرم.

وعزّز من كل ما سبق، من زاوية الكفاءة التقنية البحتة، غياب أهم رافعتين لتكوّن الدولة الحديثة عن مصر، والعالم العربي عمومًا، كما تجسّدتا في التجربة الأوروبية خصوصًا، وهما الضرائب والحرب؛ بما لهما من آثار إيجابية على الكفاءة البيروقراطية وتماسك الدولة ومأسسة السياسات؛ كضرورات حاسمة للفاعلية العسكرية وتعبئة الموارد تمويلاً لها، فضلاً بالطبع، عن الدور الديمقراطي للضرائب في توسيع المشاركة السياسية، وإجبار الحكومات على مراعاة الحدّ الأدنى من القبول والرضا الشعبي.

ولا يخفى على أحد حجم التكاليف الكمّية والكيفية لهذا التكوين البيروقراطي، سواءً بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على مُجمل عمل الدولة وأداء الاقتصاد، خصوصًا في عصر ازدادت فيه أهمية الدولة مع تعاظم دور رأس المال الاجتماعي في المجتمعات الحديثة، وكونها المسؤول الوحيد القادر على القيام بمهامه؛ حدّ بروز مفهوم "الدولة التنموية" كمُحدّد نهائي لنجاح التنمية في الأمم كافة، فما بالنا بحال الشعوب التي انحرفت دولها عن مهامها، واكتسبت بيروقراطياتها مصالحها الخاصة بعيدة عنها؟!

وبخلاف هذا الأثر "السوبرماكرو"، وكقنوات فرعية تؤدي إليه، تتعدّد تكاليف البيروقراطية الأساسية، بدءًا من رفعها حجم الإنفاق الوظيفي للمجتمع بمجموعه، مقابل، وعلى حساب، خفضها الإنفاق الإنتاجي، أي الاستثمار والعمالة المُنتجين، بما يتضمّنه من إهدار موارد وطاقات إنتاجية، وإعادة توزيع للدخول من الفئات المنتجة إلى الفئات غير المنتجة>

وهو الأمر الذي ينطبق على مصر حتى في ذروة فترتها الناصرية، عندما كانت تستهدف بناء مجتمع صناعي، ناهيك عن مجتمع اشتراكي؛ مما كان يحتّم العكس بالضبط، خلافًا للتصوّرات الشائعة الخاطئة كليًّا، حيث ارتفعت نسبة وظائف البيروقراطية العامة خلال فترة الستينيات بنسبة 70% مقابل ارتفاع نسبة العمالة الإنتاجية خلالها بنسبة 20% فقط، مُتجاوزة نسب نمو كل من السكان والعمالة والإنتاج، ومعبّرة عن تورّم ريعي غير ضروري في التكوين السوسيواقتصادي المصري، في مرحلة مبكرة سابقة لأوانها من تطوّره، بل في المرحلة الانتقالية الحاسمة في تحوّله الهيكلي لتكوين حديث.

ثاني التكاليف، والأكثر خطورة، هو الفساد بشكليه الأساسيين، الهيكلي والمؤسسي، بآثاره الكيفية خصوصًا، فناهيك عن السرقات الصريحة، وإهدار الموارد نتاجًا لضعف الكفاءة التقني.

تبرز ثلاثة آثار أساسية، بخلاف ما سبق وناقشنا بعضه في نطاق آخر، أهمها "الإعاقة الاستثمارية" بسوء تنظيم العمليات، وكثرة الإجراءات غير الضرورية، وبالمساومات المخرّبة للتنافسية والمُدِيمة لاحتكارية الأسواق والطاردة للمبادرات الخاصة>

ويلحق بها ثانيًا، "تشويه التخصيصات" الاستثمارية العامة، خصوصًا مع تعاظم السطوة السياسية للشرائح العليا من تلك البيروقراطية، وما تمارسه من تأثيرات على الموازنة العامة والإنفاق الحكومي، حدّ إهدارها الموارد العامة في مشروعات بلا جدوى اقتصادية حقيقية، اللهم إلا تحويل تلك الموارد إليها عبر تلك المشروعات، بل والوصول في أكثر الحالات تطرفًا، إلى اقتسام الاقتصاد الوطني فيما يشبه "إقطاعات بيروقراطية" كنمط تراكم أوّلي عام يسم التطور الاقتصادي للدولة بمُجملها، مُرتدًا بها لمرحلة ما قبل رأسمالية فعليًّا، ولنمط نهب ما قبل اقتصادي، أقرب للإقطاع والعبودية، عمليًّا.

إنه ورم سرطاني حقيقي، يمتصّ الدماء من كامل الجسد الاقتصادي، حتى ينتهي به لحالة الموت عمليًّا؛ بانتهاء المبادرات الاقتصادية كافة، وبغياب أيّة ثقة استثمارية، محلية أو أجنبية؛ فينزلق الاقتصاد، المتخلّف أساسًا، لمزيد من الركود التاريخي، بهروب رؤوس الأموال الكبيرة لخارج البلاد، واكتناز الفوائض في أصول مضاربية وهروبية غير إنتاجية، وتضخّم الاقتصاد غير الرسمي قزمي الوحدات بعيدًا عن أي قنوات رسمية يتصل بها ذلك الورم، رغم حتميتها لنموه نفسه؛ ما يقتل جميع إمكانات النمو الإنتاجي طويل الأجل في البلاد؛ لتبقى في حالة تخلّف متزايد وفقر أبدي وتدهور بلا نهاية، نرى آثارهم المتفاقمة يوميًّا في الاقتصاد الراكد والجنيه المتدهور والجريمة المتفاقمة.

 

المساهمون