يبدأ الديزل بالنفاد من أوروبا، ما يجعل القارة الباردة في مرمى أزمة تتجاوز الحسبان، إذ انشغل القادة الأوروبيون خلال الأشهر الماضية بملء خزانات الغاز خوفاً من عجز مخيف في الشتاء، بينما تطل أزمة ليست بالهينة في نوع حيوي من الوقود يدخل في كل مفاصل الحياة، وسط توقعات بتداعيات أكبر، لا سيما في ظل مواجهة الولايات المتحدة نقصاً أيضاً في هذه المادة، ما يجعلها تنكفئ على نفسها لتوفير احتياجاتها على عكس ما قامت به على صعيد توريد الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا في الأشهر الأخيرة لمواجهة انقطاع الإمدادات الروسية.
وأضحت أوروبا في موقف حرج، إذ يتحتم عليها استيراد الديزل من آسيا والشرق الأوسط كمورد بديل بأسعار مكلّفة، بينما كانت روسيا المورد الرئيسي خلال الفترة الماضية، الأمر الذي يرفع تكاليف كل شيء في أوروبا من سلاسل الإنتاج، ونقل السلع إلى الأسواق، بينما يعاني الأوروبيون من تضخم جامح يرفع الأصوات الساخطة على كلف المعيشة المرهقة.
ويبدو أن الأزمة قد تحتدم خلال الشتاء، خاصة مع دخول المشترين الأميركيين في سباق لاقتناص الشحنات التي كانت مجدولة للوصول إلى أوروبا وتحويل وجهتها إلى الساحل الشرقي الأميركي في تغير جذري لما كان يحدث من قبل، إذ كانت الولايات المتحدة تصدّر الكثير من الديزل إلى أوروبا المضطربة.
في الأيام الأخيرة من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، خرجت تصريحات تشبه الصرخة من جوسو جون إيماز، رئيس شركة تكرير النفط الإسبانية "ريبسول" التي أشار فيها إلى أن الديزل يبدأ بالنفاد من أوروبا بعد فقدان الإمدادات الروسية، لافتاً إلى أن فقدان تلك الإمدادات بجانب تعطل إنتاج الوقود في فرنسا، قد تركا أجزاءً في أوروبا تعاني من نقص الطاقة.
التدفئة في الشتاء
وأوضح إيماز، في كلمة خلال الإفصاح عن إيرادات الشركة، وفق وكالة بلومبيرغ الأميركية، أن نواتج التقطير، التي تشمل الديزل وزيت التدفئة ووقود الطائرات تنفد في بعض الدول الأوروبية، مضيفاً "ثمة مجال لارتفاع أسعار الديزل في الأشهر المقبلة".
لطالما كانت أوروبا مستورداً صافياً لنواتج التقطير، مع ارتفاع الاستهلاك في العادة في مثل هذا الوقت من العام بسبب الطلب على التدفئة بفصل الشتاء. والديزل مادة حيوية لمختلف الأنشطة الاقتصادية التي تعاني بالأساس من صعوبات كبيرة في مختلف الدول الأوروبية "فالحكومات لديها فهم واضح للغاية بأن هناك صلة واضحة بين الديزل والناتج المحلي الإجمالي، لأن كل ما يدخل إلى المصنع ويخرج منه تقريباً يستخدم الديزل"، وفق جون كوبر المدير العام لشركة فيولز يوروب، وهي جزء من الاتحاد الأوروبي، في تصريحات صحافية.
وذكرت شركة الاستشارات العالمية "وود ماكنزي" في تقرير لها مؤخراً، أن كمية وقود الديزل المخزن في شمال غرب أوروبا ستتراجع إلى 210.4 ملايين برميل في فبراير/ شباط المقبل، لتسجل أدنى مستوى لها منذ 2011 على الأقل.
ويعد هذا هو الشهر نفسه الذي ستدخل عقوبات الاتحاد الأوروبي على شحنات المنتجات البترولية المكررة المنقولة من روسيا بحراً حيز التنفيذ، وهي أكبر مورد خارجي للديزل بالمنطقة حالياً. وقال جيمس بيرلي، المحلل في "وود ماكنزي" إن "الانخفاض في فبراير/شباط متوقع بسبب توقف الواردات الروسية في فترة طلب مرتفع موسمياً، كما أنَّه قد يجري تقييد الواردات من مصادر بديلة بعيدة المدى".
ولعل الصدمة الأكبر تأتي من جانب الولايات المتحدة الأميركية التي من المستبعد أن تلعب دور المنقذ لأسواق الطاقة في أوروبا فحسب، وإنما قد تكون سبباً رئيسياً في شح مادة الديزل في القارة الباردة خلال الشتاء.
وكانت الولايات المتحدة تصدّر الكثير من الديزل إلى أوروبا المضطربة، لكن الأمور تتغير الآن، فهناك مزيد من شحنات الديزل الواردة من آسيا والشرق الأوسط يجري تحويل مسارها من أوروبا إلى الساحل الأميركي، في واقع صادم للأوروبيين، كما تستعد مصافي التكرير في الولايات المتحدة لفرض حظر محتمل على صادرات الوقود.
تراجع طاقة التكرير في أميركا
وقبل أيام ذكرت إدارة معلومات الطاقة الأميركية، أن مخزونات نواتج التقطير التي تتضمن الديزل عند أدنى مستوياتها منذ عام 2008. وتظهر البيانات، وفق موقع "أويل برايس" أن الوضع ربما يكون أكثر سوءاً من عام المقارنة الذي ذكرته إدارة الطاقة.
ووفق تقرير للموقع الأميركي المتخصص في أخبار الطاقة، مطلع الأسبوع الجاري، فإن نواتج التقطير كانت منخفضة مع الخروج من فصل الربيع في ذلك العام، والذي يرتفع الطلب خلاله على وقود الديزل عندما يزرع المزارعون المحاصيل، وفي الخريف عندما يحصدون تلك المحاصيل، وبالتالي فإن مخزون نواتج التقطير المنخفضة في أواخر إبريل/ نيسان 2008 ليس بخطورة المخزون المنخفض نفسها في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، حيث يبدأ الناس في الشراء لتدبير احتياجات التدفئة في الشتاء.
وأشار تقرير "أويل برايس" إلى أن السوق الأميركية تشهد نقصاً في الديزل بسبب أعمال الصيانة في مصافي التكرير، فضلاً عن تراجع طاقة التكرير بالأساس في السنوات القليلة الماضية، وتوقف الإمدادات من روسيا.
وأغلقت مصافي التكرير الأميركية بشكل دائم بعض طاقة التكرير في بداية وباء كورونا عندما انخفض الطلب على الوقود، بينما أغلق البعض الآخر المنشآت لتحويلها إلى مصافي للوقود الحيوي. ولدى الولايات المتحدة 25 يوماً فقط من إمدادات الديزل كاحتياطي، وفق إدارة معلومات الطاقة.
وتعد طاقة التكرير الأميركية الآن أقل مما كانت عليه قبل كورونا، حيث تقلصت الطاقة القابلة للتشغيل في عام 2021 للعام الثاني على التوالي لتصل إلى 17.9 مليون برميل يومياً اعتباراً من الأول من يناير/كانون الثاني 2022، وفقًا لتقديرات إدارة معلومات الطاقة.
هذه المخزونات المنخفضة، هي السبب في أن أسعار الديزل أعلى من 5 دولارات للغالون (3.78 لترات) على مستوى الولايات المتحدة، على الرغم من أن متوسط سعر البنزين على مستوى البلاد قد انخفض إلى أقل من 4 دولارات للغالون.
الحد من صادرات الوقود
وقالت إدارة معلومات الطاقة، في تقريرها عن توقعات الوقود الشتوية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إن الأسر في الشمال الشرقي التي تعتمد على زيت التدفئة لتدفئة المساحات ستشهد فواتير أعلى بنسبة 27% هذا الشتاء مقارنة بالشتاء الماضي.
ولا تستبعد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، فكرة الحد من صادرات الوقود من أجل استعادة المخزونات وخفض الأسعار، بينما تعارض شركات التكرير هذه الفكرة، قائلة إن "حظر أو تقييد تصدير المنتجات المكررة من المرجح أن يقلل من طاقة التكرير المحلية، ويضع ضغوطاً تصاعدية على أسعار الوقود للمستهلكين في المستقبل.
كما أن هذه الخطوة تعزل حلفاء الولايات المتحدة أثناء الحرب الروسية الأوكرانية، ما يجعل الأوروبيين في مأزق كبير. وقال توم كلوزا، رئيس أبحاث الطاقة العالمية في "أويل برايس إنفورمشن سرفيس" للتحليل، لصحيفة "يو أس توداي" مؤخراً "من الآن وحتى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، إذا لم نبن المخزونات، فسيكون الذئب على الباب.. وسيبدو ذئباً قبيحاً كبيراً إذا كان الشتاء بارداً".
وتتضافر طاقة التكرير المنخفضة في الولايات المتحدة منذ الوباء، والصيانة الموسمية في المصافي على مستوى العالم، والإضراب الكبير في مصافي التكرير في فرنسا في الأسابيع الأخيرة، لتسبب نقصاً في الديزل وزيت التدفئة ووقود الطائرات.
وذكرت شركة أرغوس للاستشارات، وفق تقرير لـ"أويل برايس"، أن أوروبا تمر بصدمة كبيرة في إمدادات الديزل، بسبب انخفاض المخزونات والطلب القوي. كما حذر بنك الاستثمار الأميركي "غولدمان ساكس" نهاية الشهر الماضي، من نقص كبير في إمدادات الديزل في نصف الكرة الشمالي خلال الشتاء.
وتباغت أزمة الديزل الأوروبيين الذين انشغلوا كثيراً بملء خزانات الغاز خوفاً من قسوة الشتاء، كما تربك جميع حسابات الإدارة الأميركية التي ركزت خلال الأشهر الماضية على شن حرب على منتجي النفط الخام، لترويض التضخم الجامح الذي يغير بشكل كبير من توجهات الناخبين الأميركيين.
ووفق "غولمان ساكس"، فإن العديد من الجهود الحكومية الرامية إلى مواجهة ارتفاع أسعار الطاقة تُركز على النفط الخام وليس لها تأثير يُذكر على الوقود الذي يدفع المستهلكون مقابله بالفعل، مؤكداً أن "قيود التكرير يمكن أن تخلق فجوة حادة بين أسواق النفط الخام والمنتجات، ما يجعل إدارة الساسة لإمدادات النفط الخام أقل فعالية في السيطرة على أسعار المستهلكين".