دخلت الإمبراطورية التركية في القرن التاسع عشر في عملية إصلاحاتٍ للقطاعين العام والخاص، وسمتها "تنظيمات"، وقسمتها إلى قسمين "خطي شريف" و"خطي همايون". بدأ الأول عام 1839 وحتى عام 1876. والثاني بدأ بعد ذلك وانتهى في 1908، العام الذي تنازل فيه السلطان عبد الحميد عن العرش.
وقد اجتهد أيامها العثمانيون في تعريف الفائدة، والتمييز بينها وبين الربا. وأخيراً، أصدروا قانون المرابحة العثماني عام 1908، وقالوا فيه إن سعر الفائدة على القروض يجب ألا يزيد عن 8%، وألا يزيد مجموع قيمة الفوائد المدفوعة عن مقدار أصل القرض. وظنّوا أن هذا الأمر سيحل إشكالية التفريق بين الفائدة والربا، واعتبروا نسبة الـ8% هي المرابحة التي يقبضها المودع أو صاحب المال الذي أقرضه للآخرين (أو استثمروه لدى الآخرين).
وبعد ارتفاع أسعار النفط خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ودخول الاقتصاد العالمي في فترة الكساد التضخمي، ارتفعت أسعار الفوائد التي تمثل العائد على الادخار أو الاستثمار، ولكن لأن سعر الفائدة كان لا بد من أن يرتفع فوق 8% ليكون وسيلةً نقديةً للتصحيح الاقتصادي. وبدأت الدول التي استمرت في تطبيق قرار المرابحة، مثل الأردن وسورية والعراق، في التخلي تدريجياً عن هذا القانون والسماح بحرية الحركة لسعر الفائدة.
وقد شهد العالم في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين استقراراً في معدلات الأسعار، أي أن معظم اقتصادات العالم، حتى التي حققت معدّلات نمو عالية، لم تشهد ارتفاعاتٍ مقلقة في الرقم القياسي للأسعار. ولذلك استقرّت أسعار الفوائد واستقرت معها الأجور.
وعلى العكس، دلت الشواهد، في أحيانٍ كثيرة، على أن الأجور قد تراجعت لصالح الأرباح. وهكذا باستقرار سعري الفائدة والأجور لم ترتفع معدلات الأسعار في أسواق السلع والخدمات، ولذلك حقق المستثمرون وأصحاب الشركات أرباحاً عالية.
وعليه، بدأت تظهر الفجوة الكبيرة بين الأرباح من ناحية، والأجور من ناحية أخرى، ووصل الفرق بينهما حدوداً لم يشهدها تاريخ البشرية، كما يقول الاقتصادي الفرنسي ثوماس بيكيتي، صاحب الكتاب الرائع الموسوم "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" الذي صدر عام 2018 بعد كتابه الأصغر والأقل عمقاً الصادر عام 1997 بعنوان "اقتصادات اللامساواة".
ومنذ كورونا، بدأت صورة الاقتصاد العالمي تتغير. وبدا أن كل الترتيبات التي وضعت في عصر هيمنة القطب الواحد، مثل استفراد الدولار بالنظام النقدي العالمي، وبروز قوة المؤسسات المالية الدولية، ودخول الصين أولاً والهند لاحقاً دولتين منتجتين للسلع الجيدة بكلف منخفضة، قد بدأت كلها في التغير.
وقد فقدت منظمة التجارة العالمية جزءاً كبيراً من الألق الذي استهلت به وجودها حتى عام 2008، وبدأت الصين تنافس في مجال التسويق المباشر لسلعها، وزادت حركة النأي ببعض العملات الدولية عن نفوذ الدولار الأميركي عليها.
أما الدول النامية، فقد حققت الاستقرار النقدي في معدّلات الأسعار، بسبب ارتباط أسعار عملاتها وتثبيتها مقابل الدولار، واستعمالها للدولار مباشرة في قبول مقبوضاتها وسداد مدفوعاتها. وطالما بقي سعر الدولار مستقرّاً، وإن تذبذب فهو يفعل ذلك ضمن هوامش صغيرة، وطالما بقيت الدول النامية مُحافِظة على استقرار أسعار عملاتها بإبقاء فرق ثابت بين سعر الفائدة على عملاتها من ناحية بالمقارنة مع سعر الفائدة على الدولار واستثماراته (السندات والأذونات)، فإن الاستقرار النقدي داخل هذه الدول بقي ممكناً، ومتاحاً وسهل المنال نسبياً.
ولكن تحقيق الاستقرار الاقتصادي في الدول النامية الرابطة لعملائها بالدولار واجه تحدّيين أساسيين: الأول أن هذه الدول فقدت كثيراً من سلطتها على المتغيرات النقدية التي تشكل أدوات تلك السياسية. وأدوات السياسة النقدية هي عرض النقد، وسعر الفائدة، وسعر الصرف.
وبارتباط هذه المتغيرات بنظيراتها في الولايات المتحدة تحقق لها الاستقرار النقدي، طالما أن هذه المتغيرات مستقرة هناك، ولكن هذه الدول لم تبق لها سياسة تصحيحية نقدية، إذ إنها أوكلت تلك الأمور إلى النظام الاحتياطي الأميركي، ولذلك ضعفت السياسة النقدية المستقلة لهذه الدول إلى حد كبير.
ومن ناحية أخرى، وقع عبء تصحيح الاقتصاد وإدارة نموه على السياسة المالية التي واجهت مشكلات متعدّدة في ظل كورونا، فقد قلت الموارد، وارتفعت النفقات، وزاد العجز، وزاد حجم الدين على هذه الدول.
ولذلك انحصر دور الحكومات في هذه الدول باتخاذ السياسة المالية (سواء الإيراد أم الإنفاق منها)، لتكون وسيلة لدفع عجلة النمو، وإعادة توزيع الدخل والثروة بشكل أكثر عدالةً يتلاشى، حيث صار هم الدولة أساساً ينصبّ على مواجهة الحكومة لالتزاماتها، سواء لتمويل النفقات أو لخدمة الدين العام.
وبذلك صارت السياسة المالية متصلةً بالأعباء الناجمة عن تراجع إيراداتها وزيادة عجزها وارتفاع مديونيتها من ناحية، ومن تعويض الشلل في السياسة النقدية من دعم السياسة المالية في تحمل الأعباء التصحيحية والهيكلية.
والآن، تواجه الولايات المتحدة موجة ارتفاع حادّة في معدلات التضخم الذي يتوقع أن يصل إلى 8% هذا العام. وهذا تطوّر سيدفع الولايات المتحدة إلى رفع أسعار الفوائد فيها جذباً للادخار، وتقليلاً للإنفاق لمواجهة ارتفاع الأسعار ونقص العمالة.
وفي المقابل، ستجد الدول النامية نفسها أمام معضلة خطيرة، وهيأنها إذا ارتفعت أسعار الفوائد أسوة بما سيجري في الولايات المتحدة، فإن كلفة الاستثمار في هذه الدول سترتفع، وستقل معها قدرتها على تحريك عجلة الاقتصاد وتحمل أي ارتفاع في الأسعار. وإن لم ترفع أسعار الفوائد، فقد يغري هذا الأمر كثيراً من المضاربين على بيع العملات المحلية والاستثمار في الدولار، مما قد يهدد استقرار سعر صرف عملتها. أعتقد أن هذا سيكون التحدي الأساس أمام كثير من الدول النامية في منطقة الدولار خلال العام المقبل.