- الحكومة تحاول ضبط الأسواق وخفض أسعار السلع الأساسية دون جدوى ملموسة، في ظل عدم وجود رؤية واضحة للسياسات الاقتصادية وتذبذب الأسعار، مع تحذيرات من تزايد عدم الأمن الغذائي.
- ارتفاع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين وأسعار الطعام والشراب يعكس تدهور قيمة الجنيه واضطراب سلاسل الإنتاج، مع خطط حكومية لزيادة الاحتياطي الاستراتيجي من السلع الأساسية ولكن الأسعار تبقى مرتفعة.
تتصاعد المخاوف في مصر وتحذيرات مؤسّسات دولية من موجة جديدة من غلاء أسعار السلع الغذائية، ما يضع علامات استفهام كثيرة حول وجهة إنفاق مليارات الدولارات التي حصلت عليها الحكومة من صفقة بيع أصول ضخمة وتسهيلات صندوق الدولي وجهات تمويلية أوروبية. وقد وضعت مؤسّسات دولية مصر ضمن قائمة أكثر الدول عرضة لمواجهة أزمة غذائية في الفترة المقبلة، جراء زيادة معدلات تضخم أسعار السلع الغذائية وندرة الإنتاج المحلي، وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، مع انهيار الجنيه، وصعوبة تدبير الدولار لشراء مستلزمات الإنتاجين، الصناعي والزراعي. وتدعو هذه المؤسسات إلى مساعدة الحكومة لإنقاذها من السقوط الحاد في أزمة غذاء تهدد البلاد، وتراجع قدرتها على دعم السلع بخفض المخصصات المالية خلال العام المالي المقبل 2024 / 2025 الذي يحلّ في الأول من يوليو/ تموز المقبل.
وتبحث الحكومة عن مصادر تمويل جديدة، تمكنها من شراء نحو 70% من مستلزمات الأغذية الأساسية من الخارج، تشمل القمح والزيوت ومنتجات الألبان واللحوم والدواجن، والأعلاف، بينما تعمل على دفع التجار إلى خفض الأسعار بنسب تصل إلى 30% عقب إجازة عيد الفطر. وتخطط الحكومة كذلك لإطلاق تطبيق "رادار الأسواق" على الهواتف، في يوليو/ تموز المقبل، بما يمكّن المواطنين من متابعة أسعار السلع، وتلقّي شكاوى المستهلكين، وتعريفهم بأماكن البيع، وملاحقة السلع المعيبة والتجار "الجشعين"، من جانب جهاز حماية المستهلك التابع لوزارة التموين. وخصّصت الحكومة 2650 راصداً ميدانياً يعملون بمشروع تطبيق "رادار الأسواق" لمتابعة حركة البيع والشراء لنحو 270 سلعة غذائية ومواد بناء وأسمدة، بمحلات التجزئة والسلاسل التجارية وبعض أسواق الجملة، المنتشرة بالأحياء الشعبية والمتوسطة والراقية.
وترصد مجموعات "الرادار"، وفقاً لبيان أصدره مجلس الوزراء في وقت سابق من إبريل/ نيسان الجاري، تطوّرات الأسعار بأسواق التجزئة للسلع الاستراتيجية، ومنها السكر وزيت الطعام والمعكرونة، والجبنة البيضاء، واللبن، ترتفع إلى 34 سلعة في مراحل لاحقة، مع قياس ردود أفعال المواطنين تجاهها وتعريف الجمهور بحقوقه في حالة تضرّره من أي سلعة بالأسواق.
تعتمد الحكومة على ضبط الأسواق عبر جيوش أمنية ورقابية جرارة، تشمل ثمانية آلاف مفتش يعملون بوزارة التموين، وضباط وعاملين بالأجهزة السيادية والتابعة لوزارات الداخلية والتنمية المحلية والرقابة الإدارية، لم تستطع الحد من موجات الغلاء. بينما يرجع خبراء فشل الحكومة في السيطرة على الأسواق لعدم وجود رؤية واضحة للسياسات الاقتصادية، فتارة تتبع نهجاً اشتراكياً وأخرى مؤيدة لحرية الأسواق، بما يوقعها في ارتباك بمواجهة التذبذب الحاد في أسعار السلع، مع إسراعها في بيع أصول الشركات العامة، وتفريطها بملكية المشروعات الزراعية والصناعية القادرة على مواجهة نقص السلع في غياب مساعدة جادة من جانب الغرف التجارية والصناعية، دفعت الحكومة إلى اتهام بعض عناصرها من كبار الموردين والتجار بـ "الجشع".
ويحذّر البنك الدولي من تزايد عدم الأمن الغذائي في مصر والدول التي تعاني من تضخم أسعار الغذاء، معلناً في بيان هذا الأسبوع اتجاه مؤشر أسعار الزراعة والحبوب إلى الارتفاع بنسب 8% و16%، على التوالي، بسبب تعطل الإمدادات، في البلدان المنتجة للحبوب، وتأثر بعضها بسوء الأحوال الجوية وتفشي الأمراض بالغلال. كما رصد مؤشّر البنك الدولي عودة الارتفاعات بأسعار القمح، في موجة مستمرّة منذ أسبوعين سجلت زيادة 1%، مع زيادة أسعار الأرز 27%، والذرة 13%. وعد البنك الدولي مصر من بين الدول الأكثر حاجة للدعم المالي لمواجهة احتياجاتها من السلع الغذائية المستوردة، خلال العام الجاري.
ويضع صندوق النقد الدولي مصر في مستويات الدول الأشد تعرّضاً للتضخّم في أسعار الغذاء حيث رصد زيادة تخضم بنسبة 51% خلال الأشهر الأخيرة من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 إلى فبراير/ شباط 2024، و15% بالتضخّم الحقيقي على أساس سنوي، لتأتي في المركز السادس ضمن قائمة قصيرة تشمل عشر دول الأكثر عرضة لمواجهة لأزمة بالغذاء، بعد الأرجنتين ولبنان وزيمبابوي وتركيا وفنزويلا، ومتقدمة بالمركز السادس قبل سيراليون وميانمار وفلسطين ونيجيريا.
وترصد منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) مصر بين البلدان العشرة الأكثر تضرّراً من تضخم الغذاء، وبين 45 دولة الأكثر حاجة ملحة إلى مساعدات غذائية خارجية، تواجه حالة انعدام الأمن الغذائي الحاد. وتأتي زيمبابوي على رأس قائمة البلدان الأكثر تضرّراً من تضخّم الغذاء بمعدل 37% سنوياً، تليها الأرجنتين 28%، وفلسطين "قطاع غزة والضفة" 16% ومصر 15%، وفيتنام 13% وموريشيوس 10% ونيجيريا 6% والبحرين 6% وغينيا 5%، وباراغواي 5%.
ويرصد تقرير الإحصاءات الاقتصادية 2024 الصادر أخيراً عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية اتجاهاً صعودياً في الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين على أساس سنوي، منذ مارس/ آذار 2022، اقترب من 40%، ليعكس حتى ديسمبر/ كانون الأول 2023، تدهور قيمة الجنيه، واضطراب سلاسل الإنتاج، نتيجة قيود الاستيراد وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الأسعار العالمية.
وسجّل جهاز التعبئة والإحصاء الحكومي ارتفاعاً في أسعار الطعام والشراب بنسبة 42% في الشهر الماضي (مارس/ آذار)، مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، متأثراً بزيادة أسعار الحبوب والخبز بنسبة 37.5%، واللحوم والدواجن 39.3%، والأسماك والمأكولات البحرية 42%، والألبان والجبن والبيض 45.4%، والزيوت والدهون 34.3%، والفاكهة 39.1%، والخضروات 47.6%، والسكر 48.3%، والمياه الطازجة والعصائر 42.8%.
وتأتي الزيادة في الأسعار امتداداً لسلسلة من الارتفاعات تشهدها السلع الغذائية، بوتيرة متصاعدة منذ مارس/ آذار 2022، زادت حدّتها في النصف الثاني من 2023، حيث بلغ التضخّم مستويات قياسية فاقت 40%، لم تهدأ رغم تراجع معدل التضخّم السنوي لشهر مارس الماضي إلى 33.1%.
وتخطّط الحكومة المصرية لزيادة الاحتياطي الاستراتيجي من السلع الأساسية بنحو 20%، عن مستوياتها الطبيعة، بما يمكّن الدولة من التدخل في حركة تداول السلع بالأسواق وتهدئة الأسعار " في حالة حدوث أي أزمة طارئة". وتعمل الحكومة على تدبير ما بين مليار دولار إلى ثلاثة مليارات دولار، لشراء تلك المنتجات. وجاء السكر على سلم الأولويات، حيث تسعى الحكومة إلى شراء مليون طن من الخارج، بينما تؤكّد البيانات الرسمية حاجة البلاد لنحو 300 ألف طن من السكر المستورد فقط سنوياً في ظل وجود سعة إنتاجية محلية توفّر 85% من احتياجات المواطنين من سكر القصب والبنجر.
وبشر مجلس الوزراء عبر البوابة الحكومية، المواطنين بانخفاض أسعار سبع سلع أساسية مع تطبيق مبادرة "خفض أسعار السلع الأساسية" المنفذة منذ منتصف مارس/ آذار الماضي، مشيرا إلى انخفاض سعر الفول المعبأ بنحو أربعة جنيهات للكيلو غرام، والعدس بنحو 4.3 جنيهات، والسكر 4.3 جنيهات، ليصل متوسّط سعره إلى 43.5 جنيهاً، بينما يبلغ سعره الرسمي 27 جنيهاً، ويتعرّض للاختفاء من الأسواق للشهر الثالث على التوالي. تشير الحكومة إلى انخفاض بأسعار زيت الذرة بالأسواق بنحو 4.2 جنيهات، في وقتٍ يعتمد فيه الغالبية الكاسحة من المواطنين على استخدام زيت دوار الشمس والنخيل الأرخص تكلفة.
وتكشف متابعة ميدانية لـ"العربي الجديد" للأسواق بقاء أسعار السلع عند مستوياتها المرتفعة، المسجلة قبل حلول شهر رمضان بأسبوعين، وخاصة اللحوم والأجبان والبيض والألبان والسكر، والعصائر والمشروبات، بينما انخفض سعر الدقيق والبن والذرة متأثرا بتراجع عالمي في سعر تلك المنتجات، خلال شهر فبراير/ شباط، وخروج كميّات كبيرة نهاية الشهر الماضي من الموانئ، ظلّت عالقة بمنافذ الإفراج الجمركي لعدم قدرة الموردين على تدبير الدولار.
تظلّ الجهود المشتركة بين الحكومة ورجال الأعمال، للسيطرة على الغلاء وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وفقاً لموردين، مجرد تصريحات إعلامية، وفق محللين. لكن محمد سعده رئيس الغرفة التجارية في بورسعيد يؤكّد لـ"العربي الجديد" سعي التجار إلى العمل على تحقيق استقرار الأسواق، وتوفير السلع، مع التزام الحكومة بالقضاء على ازدواجية سعر الدولار في الأسواق وتحرير سعر الصرف، بما يمكّن المورّدين من تدبير احتياجات المستهلكين من السلع الأساسية وغير المتوفرة بالأسواق. كما يتوقّع عضو شعبة المستوردين في اتحاد الغرفة التجارية، خالد الدجوي، أن تشهد الأسواق تراجعاً في الأسعار، في الفترة المقبلة، متأثرة بانخفاض قيمة الدولار مقابل الجنيه، وتسهيل استيراد مستلزمات الإنتاج للمصانع، بما يمكّن الشركات من العمل بطاقتها الإنتاجية القصوى، لتساهم في خفض الواردات تامة الصنع، وهبوط الأسعار.
ويراهن مستوردون على تراجع العمليات العسكرية في غزّة والبحر الأحمر، بما يغير قرار مقاطعة شركات الشحن البحري الكبرى العالمية لمرور سفنهم في البحر الأحمر، بما يساهم في خفض تكلفة السلع، وخاصة الزيوت واللحوم ومنتجات الألبان والحبوب والسلع المورّدة من أستراليا ونيوزيلندا والهند وإندونيسيا والصين.
في الأثناء، أوضح خبراء مركز حلول للسياسات البديلة، التابع للجامعة الأميركية، أن الزيادة في أسعار البقوليات واللحوم شهدت قفزات تخطّت 41% منذ بداية العام، لم تكن سوى استكمال لمسلسل زيادات سعرية مستمرة خلال العام الماضي، بما ينذر بعواقب صحية في ظل زيادة معدل انعدام الأمن الغذائي. وقال خبراء في المركز لـ"العربي الجديد" إن نسبة ارتفاع عدد المواطنين الذين لا يستطيعون تأمين تغذية صحية سليمة وفقاً لمؤشّر انعدام الأمن الغذائي لمنظمّة الفاو، من 27.8%، من 2014-2016 إلى 28.5%، في الفترة من 2020-2022.
وأضاف الخبراء إن استمرار زيادة الأسعار يثير تساؤلات عدة بشأن مستقبل غذاء المصريين وجدوى ومصير المشروعات القومية التي تعلن عنها الحكومة لسدّ الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، والتي يمكن أن تساهم في خفض معدّلات تضخم مصادر البروتين وتوفر الغذاء لكل شرائح الدخل، بما يحافظ على الصحة العامة للمواطنين. وأشار خبراء المركز إلى الزيادة في أسعار البروتين الحيواني منذ بداية العام 80%، منها ما يرجع إلى زيادة تكلفة الإنتاج، المتأثر بزيادة سعر الدولار ونقص المعروض من الأعلاف، بسبب تراجع الواردات خلال عام 2023، بما يظهر فجوة في إنتاج اللحوم الحمراء محلياً، وتراجع حصة المواطن منها، لتصل إلى 7.3 كيلوغرامات في العام مقابل متوسط عالمي للفرد 28.1 كيلوغراماً.
ويؤكّد الخبراء أن أزمة تضخّم الغذاء ستظل قائمة في مصر، في ظل عدم توطين زراعة البقوليات وصناعة الأعلاف، وبما يحافظ على أسعارها من التقلبات الشديدة، بعيداً عن تذبذبات سعر الصرف، مع تبنذي سياسات تعاقدية تضمن للمزارعين تغطية تكاليف المحاصيل والحصول على عائد مجزٍ يشجعهم على الاستمرار في الزراعة تلك المحاصيل، مع الرقابة على الأسواق وحماية المستهلك من الاحتكار.