الحروب التجارية ومستقبل الدول النامية

16 يوليو 2024
أرصفة الشحن في منطقة ميناء شيامن هايكانغ الجمركية في الصين، 21 يونيو 2024 (Getty)
+ الخط -

في الخامس من شهر يوليو/تموز الحالي، أجج الاتحاد الأوروبي الحروب التجارية بتطبيق رسوم جمركية إضافية ذات طابع عقابي، وبنسب تصل إلى حدود الـ 37.6%، على واردات الاتحاد من السيّارات الكهربائيّة الصينية. وخلال أربعة أشهر، من المفترض أن تحدد المفوضية الأوروبية إمكانية إلغاء هذه الرسوم في ضوء المحادثات مع الصين، أو تثبيتها بشكل نهائي لمدّة خمس سنوات.

على هذا النحو، سار الاتحاد الأوروبي على خطى إدارة بايدن، التي قرّرت كذلك فرض رسوم أقسى، تصل إلى حدود الـ 100% على واردات السيّارات الصينيّة. غير أنّ تأثير القرار الأوروبي سيبقى أشد على الشركات الصينيّة، بالنظر إلى ارتفاع حصة الشركات الصينية في سوق السيّارات الكهربائيّة في أوروبا إلى نحو 19.5% خلال العام الماضي، بحسب أرقام وكالة "بلومبيرغ". في حين أنّ هذه النسبة لم تتجاوز 2% في الولايات المتحدة خلال العام الماضي، قبل أن تنخفض إلى 1% بحلول الربع الأول من هذا العام.

الحجة المعلنة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتنفيذ هذه الإجراءات العقابيّة، هي اعتماد الشركات الصناعية الصينية على دعم حكومي مفرط. وهو ما يخلق، برأي هؤلاء، فائضًا كبيرًا في الإنتاج، وبأسعار منخفضة للغاية، مقارنة بأسعار السيّارات الكهربائيّة الغربيّة. بهذا المعنى، يرى الغرب أن الصين تعتمد على سياسات تجاريّة "غير منصفة"، بحسب التعابير التي تم استعمالها في مناقشات مجموعة السبع خلال أيّار/مايو الماضي.

لدعم هذه النظريّة، يشار في العادة إلى المبالغ الضخمة التي أنفقتها الصين لدعم قطاع تصنيع السيّارات الكهربائيّة، والتي تجاوزت 231 مليار دولار بين عامي 2009 و2023. وأكثر من نصف هذا المبلغ، جرى تقديمه على شكل إعفاءات من ضريبة المبيعات. بينما توزّع النصف الباقي على دعم البنية التحتيّة وإنشاء محطّات الشحن وبرامج الدعم والتطوير وشراء المؤسسات العامة لهذا النوع من المنتوجات.

إلا أنّ تبرير هذه الإجراءات المؤججة لوتيرة الحروب التجارية من زاوية التصويب على الدعم الحكومي الصيني يبقى حجّة ضعيفة، وخصوصًا في هذه المرحلة. فالولايات المتحدة نفسها قدّمت أكثر من 370 مليار دولار عام 2022، دعما مباشرا لصناعة السيّارات الكهربائيّة والبطّاريّات ومكوّنات الطاقة المتجدّدة، وغيرها من برامج أمن الطاقة والانتقال إلى الطاقة النظيفة. ومنحت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قبل أيام 1.7 مليار دولار في شكل منح للمساعدة في إعادة تشغيل أو توسيع منشآت تصنيع وتجميع السيارات الكهربائية في ثماني ولايات، بينها ساحات المعارك الرئاسية في ميشيغان وبنسلفانيا وجورجيا. وتمامًا كحال الحوافز الصينيّة، جاء الجزء الأكبر من هذا الدعم الأميركي، الذي تم إقراره ضمن قانون "خفض التضخّم"، على شكل حوافز ائتمانية وضريبيّة.

وفي واقع الأمر، كانت الحروب التجارية ضد الواردات الصينيّة، وزيادة تنافسيّة الصناعات الأميركيّة في وجه هذه الواردات، أحد الأسباب الواضحة والمُعلنة لقانون "مكافحة التضخّم"، وهو ما وضع رزمة الدعم بأسرها في سياق التنافس التجاري بين البلدين. بل وحتّى أنّ الاتحاد الأوروبي نفسه وجد في برامج الدعم الأميركيّة تلك خطوة عدوانيّة تجاه المنتجات الأوروبيّة، وهو ما دفع ألمانيا للتحذير من "حرب تجاريّة" قد تندلع بين التكتّلين الصناعيين الأوروبي والأميركي.

من ناحيته، لم يكن الاتحاد الأوروبي أقل حرصًا من الأميركيين على دعم صناعاته في هذا القطاع. ففي مواجهة هذه السياسات الأميركيّة والصينيّة، يراهن الاتحاد الأوروبي على إنفاق أكثر من 72 مليار يورو متوسّطا سنويا، على دعم القطاعات التي تساهم في تحقيق أمن الطاقة والانتقال إلى الطاقة المتجدّدة، وفي طليعتها قطاع السيّارات الكهربائيّة.

باختصار، ما يجري لا يربط بمعاقبة الصين على ممارسات تجاريّة غير نزيهة، بقدر ما يرتبط بحرب تجاريّة كاملة المعالم بين كبرى التكتّلات الصناعيّة. وأحد أهداف هذه الحرب التجاريّة، هو سيطرة كل طرف على أكبر قدر ممكن من سلاسل توريد قطاع السيّارات الكهربائيّة، الذي حقّق خلال السنة الماضية نموًا بنسبة 33% على المستوى العالمي. وبطبيعة الحال، هذا الصراع ليس سوى نتيجة من نتائج الانتقال التدريجي نحو مصادر الطاقة المتجدّدة، لضمان أمن الطاقة في كل تكتّل صناعي، ما عزّز مكانة السيارات الكهربائيّة في الأسواق الدوليّة.

مشكلة الدول الغربيّة تكمن في أنّ الصين كانت سبّاقة تاريخيًا في تشكيل ودعم سلاسل توريد الصناعات المتعلّقة بالسيّارات الكهربائيّة والبطاريّات ومصادر الطاقة المتجدّدة. هذا العامل، فضلًا عن انخفاض كلفة سائر عوامل الإنتاج، أعطت الصناعات الصينيّة في هذا المجال قدرة تنافسيّة عالية، ما يفسّر خشية الغرب من هيمنة الصين على هذه القطاعات.

اندفاع الدول الغربيّة نحو الحروب التجارية والسياسات الحمائيّة الشرسة، يخالف بالتأكيد نظريّات تحرير الأسواق وتخصّص كل دولة في الصناعات التي تملك فيها كفاءة وتنافسيّة مميّزة. وهذا ما يناقض حتمًا شعارات حريّة التجارة الدوليّة، التي قامت الدول الغربيّة بتسويقها والدفع باتجاهها تاريخيًا، من خلال قواعد منظمة التجارة الدوليّة. ومن شأن هذا التحوّل أيضًا أن يبطئ وتيرة الانتقال نحو الطاقة النظيفة في الدول الغربيّة، بفعل ارتفاع كلفة المنتجات المحليّة هناك، وخضوع المنتجات المستوردة إلى الرسوم الحمائيّة الجديدة.

على مستوى الدول النامية، من الواضح أنّ الحروب التجارية ستحمل معها فرصا وتحديات في الوقت نفسه. التحدّي الأهم لهذه الدول، هو تدفّق فائض الإنتاج الصيني منخفض الثمن باتجاه أسواق الدول النامية، التي تملك صناعات ناشئة في قطاع السيّارات الكهربائيّة، بعد وضع الحواجز أمام الإنتاج الصيني في الغرب. وهذا ما قد يؤدّي إلى ضرب هذه الصناعة في الدول النامية، التي تطمح لتطوير سلاسل التوريد المحليّة في هذا المجال.

من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم الرسوم الجديدة التي فرضتها تركيا على استيراد السيّارات الصينيّة الكهربائيّة، خلال شهر يونيو/حزيران الماضي، وبنسبة قاربت الـ 40%. ومن الزاوية نفسها، يمكن فهم تحفّظ السعوديّة على تقدّم محادثات تحرير التجارة ما بين الصين ومجلس التعاون الخليجي. في الحالتين، ثمّة خشية من إغراق الأسواق المحليّة بفائض الصناعات الصينيّة، التي باتت تعاني من صعوبات متزايدة على مستوى نمو مبيعاتها في الغرب.

لكنّ في المقابل، يمكن لهذه الحرب التجاريّة أن تحمل فرصًا مميّزة، وخصوصًا للدول النامية التي تطمح لاستقطاب الاستثمارات الصناعيّة الأجنبيّة. وعلى نحوٍ أدق، يمكن للدول النامية أن تسعى لاستقطاب استثمارات الشركات الصينيّة، التي ترغب بنقل جزء من إنتاجها وسلاسل توريدها إلى الخارج، لتفادي القيود والرسوم الغربيّة المفروضة على السلع المُنتجة في الصين.

وهذا بالفعل ما تمكنت تركيا من تحقيقه، حيث من المفترض أن تضخ شركة "بي. واي. دي." الصينيّة استثمارًا بقيمة مليار دولار في هذا البلد، لفتح مصنع جديد لها هناك غرب البلاد. من خلال الاستثمار، ستتمكّن تركيا من إكمال وتعزيز سلاسل توريدها في هذه الصناعة، وخلق فرص العمل. بينما ستتمكّن الشركة الصينيّة من تجاوز الرسوم الجمركيّة العقابيّة، التي تطاول إنتاجها في الصين. كما ستستفيد الشركة الصينيّة من قدرة أكبر على الولوج إلى الأسواق الأوروبيّة، بحكم وجود اتفاقيّة اتحاد جمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي.

تجربة استقطاب الاستثمارات الصينيّة، وفي القطاعات الصناعيّة بالذات، حققت نجاحًا مماثلًا في كل من المغرب والسعوديّة والمكسيك والمجر. وفي جميع هذه الحالات، كانت الصين ترى في تلك الدول نقطة عبور تسمح بالولوج إلى أسواق التكتلات الاقتصاديّة الكبرى، كحال المكسيك العضو في اتفاق التجارة الحرّة لشمال أميركا، أو السعوديّة العضو في مجلس التعاون الخليجي، أو المجر العضو في الاتحاد الأوروبي.

وفي ظل تقهقر مفهوم العولمة الاقتصاديّة، وتجزئة سلاسل التوريد الصناعيّة، تتزايد الفرص المتاحة أمام البلاد النامية، التي يمكن أن تلعب دور اقتصادات "الربط" بين التكتلات المتنافسة التي تشتعل بينها الحروب التجارية المستعرة. المُهم، للاستفادة من هذه الفرص، هو أن تمتلك هذه الدول خططًا شاملة لتطوير البنى التحتيّة والبيئة الاستثماريّة، للتمكّن من حجز مكانها على امتداد خرائط سلاسل التوريد العالميّة. وجود هذه الخطط، هو العامل الحاسم الذي سيحدد إمكانيّة استفادة الدول النامية من هذا الواقع، بدل أن تتحوّل إلى ضحيّة أو مجرّد متأثر.