في العام 2022 أُصبْتُ بالكوفيد 19، واكتشفتُ أنّ كليتي اليمنى قد ضمرت بسبب تكسير بأشعة الليزر لحصوة كبيرة فيها، وتوفيت والدتي كوثر عن شيخوخة صالحة. فقلت هذا عام "كافِيٌّ" بكلّ معنى الكلمة. ولما دَققت وجدت أن ترتيب حرف الكاف هو 22 من بين حروف الأبجدية الثمانية والعشرين. فقلت هذا توافق غريب. طبعاً ليس من صنع القدر، ولا من أسرار الغيب، ولكنها مصادفة طريفة.
وإذا أردنا أن نستطرد في هذا الأمر، فنقول إنّ أبرز حرف في اسم دولة أوكرانيا هو حرف الكاف، ودعاؤنا إلى الله أن نقول ضارعين "كفانا" وهنالك تحركات دبلوماسية ثلاثية في العالم ومنطقتنا تستدعي الانتباه. فاجتماع اللجنة العليا لكل من مصر والأردن ودولة الامارات للتنسيق الاقتصادي قد عقد خلال الأسبوع الحالي، واجتماع أنقره للاتفاق على تصدير القمح الأوكراني من ثلاثة موانئ قد نظم بطريقة تضمن وجود ثلاثة أطراف وهي الرئيس التركي والمندوب الروسي وأمين عام الأمم المتحدة، ثم يعقد اجتماع آخر يحضره الرئيس التركي وممثل عن أوكرانيا والأمين العام للأمم المتحدة لأن المندوبين، الروسي والأوكراني، لا يتصافحان ولا يجتمعان في نفس القاعة. ولكن اتفاق القمح قد تعطل بسبب ما قيل إنه هجوم صاروخي روسي على تجمع مدني في أوديسا، أحد الموانئ الثلاثة لتصدير القمح الأوكراني، فقتل عدد من الأطفال والمدنيين. فتعطل تصدير القمح علماً أن روسيا تقول إنها وجهت ضربة لمخزن للصواريخ والأسلحة الأميركية في أوديسا.
وتركيا التي تولت الوساطة في موضوع القمح اتهمت من الحكومة العراقية بقتل مدنيين بضربات صاروخية في محافظة "دهوك" العراقية والتي أدت إلى قتل عدد واصابات عشرات بجروح بعضها خطيرة.
وطلب العراق من مجلس الأمن أن يعقد جلسة طارئة، ولكن تركيا أنكرت أنها أطلقت أي نوع من القذائف على محافظة "دهوك" العراقية، وشرحت أن هناك قائمة من جهات أخرى لها مصلحة في ذلك الحادث، وتريد توريط تركيا في الأمر.
وقد وقع هذا الحادث في المحافظة الشمالية العراقية في أعقاب انتهاء مؤتمر القمة الثلاثي بين روسيا وتركيا وإيران. ومع أن الجانبين الروسي والايراني اتفقا على تحديد من هي الجهات الإرهابية، إلا أن تركيا على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان أصرت على أن يكون حزبان كرديان ضمن قائمة الإرهابيين، وهاتان المنظمتان هما YPG أو وحدات الدفاع الشعبية وPKK أو حزب العمال الكردستاني.
وهذا يرتبط أيضاً بموقف تركيا حيال دخول كل من السويد وفنلندا حلف الناتو. وبرغم توقيع مذكرة تفاهم بين وزراء خارجية الدول الثلاث، إلا أن الرئيس التركي عاد ليشكك في نية الجانبين السويدي والفنلندي في تنفيذ بنود البروتوكول، ما أثار عليه ردود فعل قاسية واتهامه بازدواجية المعايير.
ورئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، الذي يبدو أنه اعتاد الأضواء والنجومية التي تحققت له بسبب الحرب صار بحد ذاته هدفاً للاتهامات من قبل روسيا، في الوقت الذي يلقى فيه الترحاب في بعض برلمانات أوروبا ويصفق له تصفيق الابطال. وأما محطات عالمية تخلت كلية عن حيادها في تأييد زيلنسكي تأييداً كاملاً غير مبالية بأن تكون موضع سخرية عندما تنسى أو تتناسى أن ما ترمي به روسيا من تهم في أوكرانيا هو نفس ما يلاقيه الشعب الفلسطيني على أيدي اسرائيل وقواتها المعتدية، أو ما تتعرض له كثير من الأمم الضعيفة.
ولا أقول إن أوكرانيا تستحق ما يجري لها، ولكن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليس بالشخص المتهور ليدخل حرباً لولا أنه استفز وجرجر إلى حرب لم يستطع تفاديها. ولو بقي ساكتاً على كل ما كان يكال من إساءات تقوم بها الجهات الحكومية الأوكرانية ضد السكان من أصل روسي في شرق أوكرانيا لفقد جزءاً كبيراً من شعبيته والكاريزما التي يتمتع بها لدى معظم الشعب الروسي.
المعارك تحتدم كل يوم على الجبهات، ولكن المعارك السياسية لا تتوقف، ولا السباق الإعلامي المحموم لكسب الرأي العام العالمي.
وبعض الدول مثل الصين والهند، والبرازيل، وغيرها تريد أن تستفيد من هذه الحرب على حساب الأميركان والأوربيين والروس. ولذلك سارع الروس ورحبوا بحضور قمة دول مجموعة بريكس الافتراضية (BRICS) لكي يظفروا من المجموعة بموقف مؤيد لهم.
وكذلك، فإن الروس يعلمون أن الخلافات الصينية مع الولايات المتحدة لن تمنع الصينيين من تحقيق مكاسب أكبر، ولكنها لن تفرط في علاقاتها مع الولايات المتحدة كسوق تصديرية ضخمة، وكمستثمر كبير مع الصين، ولدى الصين على الأقل استثمارات داخل الولايات المتحدة لا تقل عن 1.3 تريليون دولار في السندات الحكومية، وقدرها في أسهم الشركات الأميركية وغيرها.
ولمواجهة الدعاية الغربية الموجهة ضد روسيا في الوطن العربي وأفريقيا، فقد صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأنه يشكر العالم العربي على حياديته في الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، وذلك في بداية جولة أفريقية بدأت من القاهرة يوم الأحد الماضي، وتشمل كلاً من الكونغو، وأوغاندا، وأثيوبيا. وجميعها دول مستوردة بكميات كبيرة من القمح، ولها مكانتها داخل أفريقيا، وذلك من أجل اقناع هذه الدول أن روسيا لا تعطل الحل في أوكرانيا، ولا تريد وقف تصدير القمح، إنما الغرب وأميركا بالذات هي من تدفع بذلك الاتجاه بكل قوة.
هذه الجولة عصف الدماغية تأخذنا من موضوع إلى آخر حتى نكتشف مدى ارتباط المعارك الحربية والاقتصادية بجوانبها الدبلوماسية والإعلامية. ولم تعد أي من مؤسسات الإعلام الدولية التي خدعنا بمظاهرها الموضوعية تتمتع بأي درجة من المصداقية لدى الكثيرين. بل هي ذات نغمة واحدة وأسلوب مسطح واحد، وكذب يتحدى العقول والمنطق، فأين تكمن الحقيقة؟
إذا كانت هذه المؤسسات هي التي تدعي التوازن والموضوعية، وتنصب من نفسها العريف على أخلاق العالم ومُثُلِهِ ترتكب كل هذه الحماقة العمياء وتعامل المشاهدين بهذه السذاجة المفرطة، فلماذا نلوم الأفراد عندما "يفشون خلقهم" على أوضاعهم المعيشية أو الحياتية عبر وسائل الإعلام الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي التي تبث خلالها.