الجنيه المصري وشرف البنات

24 أكتوبر 2022
الجنيه يتعرض لانهيار مستمر أمام الدولار منذ عام 2015 (الأناضول)
+ الخط -

"يجب أن تحافظ الحكومة على قيمة الجنيه المصري، كما نحافظ على شرف البنت" هكذا نطقت الدكتورة عبلة عبد اللطيف، أستاذة الاقتصاد ومديرة المركز المصري للدراسات الاقتصادية، كلماتها النارية، أمام نخبة من المتخصصين وكبار المسؤولين في الدولة.

لم تجد السيدة الليبرالية من كلمات صادمة ترد بها على الإهانات المستمرة للجنيه، إلّا بمثل هذا التشبيه الذي يفزع أي شخص لا يعنيه الأمر، لكنه بالتأكيد لن يفكر كثيرا إذا ما انتهك عرضه، ولو كانت عواقب ذلك الموت.

لم تعجب الكلمات المسؤولين، الذين "يلعبون بالنار" ويتجهون بالجنيه إلى مزيد من التراجع، إرضاء لصندوق النقد الدولي والجهات التي تحبو الحكومة أمامها للحصول على مساعدات جديدة.

يتعرض الجنيه المصري لإهانات، رصدها مختصون منذ 70 عاماً، بعدما خرج من الحرب العالمية الثانية، باهتزازات خفيفة. ظل الجنيه حتى نهاية العهد الملكي يقابل أربعة دولارات مطلع الخمسينيات، أو جنيها إسترلينيا وشلنغ "خمسة قروش".

بدأ الجنيه رحلة السقوط إلى الهاوية بالتدريج، بعد حركة الضابط في يوليو 1952. وانخفض بنسبة 52%، من 1952 حتى هزيمة يونيو 1967، مع تبديد عبد الناصر لرصيد الذهب بالبنك المركزي، في حرب اليمن، وقرارات التأميم التي قضت على الرأسمالية الوطنية الصاعدة. تبددت أموال وأصول الشركات التي أممها نظام عبد الناصر، التي طاولت بعض الفاسدين والأجانب، لكنّها شملت أصحاب المشروعات الصغيرة والكبيرة ورؤوس أموال الوطنيين أيضاً.

رغم حرب الاستنزاف والاستعداد لحرب أكتوبر، إلّا أنّ التراجع في قيمة الجنيه، لم يتجاوز 5% أمام الدولار من 1967 إلى 1977، إذ ظلّ الجنيه يساوي 2.5 دولار.

شحّ المال في هذه الفترة وعمّ الفقر، وتحمّل المصريون بمفردهم آلام الهزيمة وتكاليف الحرب التي ورّطنا بها رئيس عسكري، لم يبقَ على صديق يعينه مالياً أو جهة تقرضه، فظلّ يدبر أموره بما يملكه الشعب من موارد.

عقب انتفاضة الخبز عام 1977، ورغبة الرئيس السادات، في إحداث طفرة اجتماعية، من دون أن يمتلك أدوات أو سياسية اقتصادية، تحدد سبل البناء والتنمية، اتجه إلى انفتاح، نجد أنّ أفضل وصف له، ما أطلقه أستاذنا الراحل أحمد بهاء الدين بأنّه "انفتاح السداح مداح".

أراد النظام وقتها العيش في ثوب إمبراطوري، ليجرجر وراءه شعبا فقيرا إلى الهاوية، من دون أن يصنع نموذجا للتنمية، بدا يزحف ويحدث تغييرا شاملا، في دول أكثر خرابا، عانت من الحروب لسنوات مثل كوريا والصين وسنغافورة والهند وماليزيا وإندونيسيا.

فقد الجنيه 50% من قيمته، أصبح الدولار يساوي 60 قرشا، إلى عام 1981، مع طلب السادات قرضا من صندوق النقد، لبدء سياسة" الانفتاح" مع تشدد الصندوق على زيادة أسعار السلع الأساسية.

تلقى الجنيه طعنة من أهله، خلال الفترة من 1981 إلى 1988، حينما أصبحت السوق السوداء هي الجهة المهيمنة على تداول الدولار، بينما البنوك لديها سعر موحد، ولا تملك الدولار، فلجأت الحكومة إلى تجار العملة لتشتري الدولار، بنحو 83 قرشا.

عندما طلبت الحكومة مساعدة جديدة من صندوق النقد، أصبح الدولار يقابل 1.5 جنيه عام 1991، ومن يومها وحركة تراجعه لم تهدأ، فتراوح الانخفاض ما بين جنيه إلى جنيه ونصف سنويا، حتى عام 2005، فيما يسمى بمرحلة "التعويم الأولى" التي قررتها حكومة عاطف عبيد، فبلغ سعر الدولار 6.30 جنيهات، واستقر عند 5.75 جنيهات، حتى ثورة 25 يناير 2011.

لم تنهَر العملة المصرية، في ثورة 25 يناير، رغم انقطاع المعونات الخليجية، فتراوح السعر ما بين 5.8 إلى 6.06 جنيهات للدولار، عامي 2011 و2012، ومع الضغوط التي مارستها جهات عدة، لوقف الصادرات البترولية وتعطل حركة السفر والسياحة، أصبح يعادل 7 جنيهات في مايو 2013.

عرف الجنيه رحلة الانهيار غير المتوقفة منذ عام 2015، التي زادت مع توقيع اتفاق جديد مع صندوق النقد بتعويم الجنيه في نوفمبر 2016، تخطى كل الحدود، حيث ارتفع الدولار من 8.80 جنيهات إلى ما يوازي 19.56 جنيها، ليفقد أكثر من 60% من قيمته.

ما زال الجنيه يتراجع. فقد 25% من مطلع العام الجاري، والمدهش أن الدول المستقرة حولنا في الخليج، منها نشأت بعد فترة الرصد هذه، لم تتأثر عملتها. فما زالت المائة دولار توازي 375 ريالا سعوديا أو درهما. قد يعتقد بعضهم أن رصيد هذه البلاد من الثروات البترولية، يحفظ عملتها من الانهيار، لكن دولة مثل الأردن لا ثروات ولا موارد لها تقريبا، تعيش على المعونات المادية والعينية، ما زال الدينار الأردني الذي حل محل العملة الفلسطينية، التي كانت سائدة داخل الأرض المحتلة وشرق الأردن منذ عام 1950، وحتى الآن، يوازي 1.41 دولار.

بنظرة متفحصة، ندرك أن كلمات الدكتورة "عبلة"، لم تكن عفوية، بل صرخة مدوية، في وجه نظم استمرأت اللجوء إلى خفض قيمة العملة، كلما تعرضت لضغوط خارجية، ليس لأنها لا تدري كيف يدار الاقتصاد فقط، بل لأنّ هناك حفنة من الهواة يوجهون الاقتصاد وفق أهوائهم الخاصة ومعاركهم "الدونكيشوتية"، بعيدا عن الحرفية والرقابة الشعبية.

ميزانية الدولة "مخرومة" تسرب بكلّ اتجاه يريده الحاكم وزمرته، عبر صناديق خاصة ومصروفات سرية أو سيادية لا تملك جهة الاطلاع عليها أو تدوير معلوماتها للشعب عبر الأجهزة الرسمية أو الإعلام المستقل.

موقف
التحديثات الحية

تبحث دولة مثل الأردن عن توازن الإيرادات مع المصروفات، ورغم الفساد المالي الذي يطاول بعض الشخصيات المهمة إلّا أنّ الميزانية تخرج متوازنة، فلا قروض بدون هدف، ولا زيادة في الأعباء من دون استئذان من سيدفع التكاليف.

دول الخليج رغم غناها الفاحش، وحدة الميزانية أصبحت أمراً لا مفر منه، وهناك دول تملك رقابة شعبية مزعجة كما في الكويت، التي ترفض السماح للحاكم باللجوء إلى الاستدانة لتمويل العجز في الموازنة.

لا توجد دولة مستقرة، إلا وتعمل على توحيد الإيرادات وتحديد أوجه الصرف بدقة، وتحقيق الشفافية في إدارة المال العام، ومشاركة الناس في اتخاذ القرار.

هذه الحكومات تمتلك الشجاعة بأن تخاطب الشعب بالأزمات التي تواجهها، وفي نفس الوقت لا تخاطر بإقامة مشروعات أو قروض لن تفيد أو تحمل الناس فوق طاقتها أو تصبح بوابة لإثراء نخبة حاكمة، تزيد المصائب على شعب فقير.

المساهمون