احتضنت مدينة وهران، الواقعة غرب الجزائر العاصمة والمُلقَّبة بـ "الباهية"، ألعاب البحر الأبيض المتوسِّط في نسختها الـ 19 خلال الفترة من 25 يونيو/ حزيران إلى 6 يوليو/ تمّوز 2022، بمشاركة 26 دولة منها مصر، المغرب، تونس، ليبيا، سورية، فرنسا، إيطاليا، البرتغال، اسبانيا، تركيا، قبرص، صربيا، سلوفينيا، واليونان.
وراهنت السلطات الجزائرية على إنجاح الحدث الرياضي المهم والمُعوَّل عليه في نقل صورة حسنة عن الجزائر دولةً وشعباً، وترك أثرٍ طيِّبٍ وسط الوفود الأجنبية والسيّاح وإبراز الإمكانات الاقتصادية للبلاد، وتمهيد الطريق للانخراط في مشاريع مستقبلية، دون الاكتراث للمحاولات المتكرِّرة للتقليل من العزائم وإحباط المعنويات والتشكيك في القدرات وتشويه سمعة البلاد لدى الهيئات الرياضية الدولية.
وفي إطار الاستعداد لهذا الحدث الرياضي المهم خصصت الحكومة الجزائرية مبالغ ضخمة حرصا على نجاحه، فقد تم تخصيص مبلغ مالي يُقدَّر بـ 45 مليار دينار (نحو 307 ملايين دولار) لإنجاز مختلف مشاريع الهياكل المتعلّقة بتنظيم الدورة الـ 19 لألعاب البحر الأبيض المتوسِّط والتي يزيد عددها على 35 مشروعاً في ثمانية قطاعات مختلفة.
وتمَّ إنجاز القرية المتوسِّطية المخصَّصة لإيواء الضيوف والتي يُنتظر تصنيفها بـ 3 نجوم بغلاف مالي قُدِّر بـ 17 مليار دينار (115.9 مليون دولار)، واستفاد الملعب الأولمبي الجديد بوهران لوحده من ميزانية بحدود 16 مليار دينار (نحو 109.1 ملايين دولار)، وبلغت تكلفة تزويده ببساط هجين 170 مليون دينار (نحو 1.15 مليون دولار).
كما تمَّ ضخّ 14 مليار دينار (95.5 مليون دولار) لإتمام أشغال إنجاز الطريق المزدوج الذي يربط ميناء وهران بالطريق السيّار شرق-غرب. وبلغت التكلفة الإجمالية لتوسعة مطار أحمد بن بلة بمعايير دولية، وإنشاء محطة جوِّيّة جديدة لاستضافة الوفود في أحسن صورة 38 مليار دينار (259.26 مليون دولار).
وتمَّ تخصيص ما قيمته 1.4 مليار دينار (9.55 ملايين دولار) لتحضير الرياضيين الجزائريين في مختلف الاختصاصات للمشاركة في فعاليات هذا الموعد الرياضي المتوسِّطي البارز وتحقيق نتائجٍ مرضية.
عرفت عملية إنجاز المشاريع الخاصّة بالألعاب المتوسِّطية عدّة توقُّفات وتعثُّرات نتيجة المشاكل التقنية التي زادت العبء على الأغلفة المالية المُخصَّصة لتلك المشاريع، غياب رؤية واضحة لدى المسؤولين المشرفين، النقائص الكبيرة في الجانب التكنولوجي، النزاعات بين الشركات المُكلَّفة بالتشييد، مشاكل في المناقصات، سوء تقدير لمعطيات السوق بخصوص أسعار مواد البناء، وكذا تداعيات جائحة كورونا التي أغلقت العديد من الورشات، بالإضافة إلى التدارك المتأخِّر لضرورة التعامل مع ملف الأولمبياد المتوسِّطي بالجدية التي يستحقُّها.
وخوفاً من عدم احترام الهامش الزمني المُتَّفق عليه سالفاً، شدَّدت السلطات الجزائرية على ضرورة تسريع وتيرة الأشغال ومضاعفة الجهود لاستلام كل المشاريع لا سيَّما الاستراتيجية منها قبل تاريخ 31 ديسمبر/ كانون الأوّل 2021.
ومن جانبه أكَّد والي مدينة وهران، مطلع الشهر الماضي، استلام جميع المشاريع التي كانت تعرف تأخُّراً في ظرفٍ وجيزٍ وأعلن عن جاهزية المدينة لاحتضان هذه الفعالية الرياضية الدولية بالغة الأهمية.
ورغم التجهيز الحكومي العالي لإنجاح دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط 2022، نجد أنّ الأمر لم يخلُ من الصعوبات والنقائص، فقد أعلنت اتِّحاديتا الفروسية في فرنسا وإسبانيا عن عدم مشاركتهما في دورة الألعاب المتوسِّطية في طبعتها الـ19 بسبب عدم حصولهما على ضمانات بخصوص سلامة الخيول أثناء المنافسة، وعدم تلقِّي أيّ رد بشأن شروط النظافة واللوجستيك اللازمة لضمان أمن الخيول، وافتقار الموانئ الجزائرية للبنية الآمنة والصحية والمُجهَّزة لاستقبال الخيول، بالرغم من استعداد الجزائر التامّ للتكفُّل المادّي بدخول وتنقُّل الخيول من ميناء وهران دون أيّ تعطيل، وهذا ما شكَّل مادة دسمة للمشكِّكين في قدرات الجزائر على تنظيم مثل هذه الفعاليات الرياضية الضخمة، وسبقت إيطاليا هذين البلدين الأوروبيين في تأكيد عدم مشاركتها في مسابقات الفروسية دون ذكر الأسباب.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوّة هنا هو: هل ستعود الجهود والاستثمارات الكبيرة التي قامت بها الحكومة الجزائرية لاحتضان ألعاب البحر الأبيض المتوسِّط بالفائدة على اقتصاد الجزائر وشبابها وقطاعها السياحي والخدمي؟
صحيح أنّ مثل هذه الفعاليات الرياضية تُضاعف إيرادات قطاع النقل، الفنادق، المطاعم، المحلاّت التجارية، وعائدات السياحة عموماً في مدينة وهران والمدن السياحية القريبة منها، كما ساهمت عمليات تعزيز البنية التحتية والتنظيم لهذا الحدث الرياضي الدولي أيضاً في توفير العديد من مناصب الشغل وفرص العمل المؤقَّتة، كما ستُؤتي مشاريع البنية التحتية وبناء وتطوير ملاعب كرة القدم ثمارها المالية والاقتصادية غير المباشرة في المدى الطويل لا سيَّما إذا وضعت الجزائر نصب عينيها هدف الاستمرار في تنظيم الفعاليات والمسابقات الرياضية الدولية والتنافس الشرس لاستضافتها وإحداث نقلة رياضية نوعية، الأمر الذي سينعكس إيجابياً في المستقبل على جذب الاستثمارات، تحسين التجارة، إعطاء دفعة قوية لصناعة السياحة والفندقة الحديثة، تعزيز حظوظ اختيارها كوجهة لاستضافة مناسبات عالمية أخرى لا تقلّ أهمية.
لكن من ناحية أخرى كشفت دراسة تحت عنوان "الذهاب من أجل الذهب: اقتصاديات الأولمبياد" "Going for the Gold: The Economics of the Olympics"، نشرها الأكاديميان الأميركيان "روبرت بادي" و"فيكتور ماثيسون" سنة 2016، بأنّ الألعاب الأولمبية في معظم الحالات ما هي إلاّ مجرّد صفقة خاسرة وقرار استثماري سيئ بالنسبة للدول المضيفة لا سيَّما تلك النامية.
وأكَّد الباحثان أنّ الإرث الأولمبي للدول المضيفة ما هو إلاّ ديون مرتفعة وبنية تحتية مهدورة والتزامات صيانة مرهقة، بدلاً من زيادة الاستهلاك وازدهار السياحة وتعزيز مكانة وهيبة البلد المضيف.
وفي السياق ذاته أفاد كل من "بانت فلايفبيرج"، "ألكسندر بودزير"، و"دانيال لان" في دراستهم المعنونة بـ "Regression to the tail: Why the Olympics blow up" بأنّ نفقات تنظيم الألعاب الأولمبية تجاوزت في كل مرّة الـ 172 بالمائة من القيمة الحقيقية والميزانية المرصودة في الأصل منذ عام 1960، وهذا ما اعتبره الباحثون أعلى تجاوز على الإطلاق لأيّ نوع من المشاريع العملاقة، وخرجوا على أثر ذلك بتوصيات تفيد بأنّه ينبغي على المدن والدول التفكير مرّتين قبل الاستضافة.
خلاصة القول، فوائد استضافة ألعاب البحر الأبيض المتوسِّط ليست رياضية فحسب، وإنّما اقتصادية واجتماعية وثقافية، ولكن ينبغي أن تُرفق هذه الخطوة بخطوات أخرى في إطار استراتيجية شاملة طويلة الأجل لتعزيز اقتصاد الجزائر ومكانتها.