التضخم يهدد بعودة الشعبوية لأوروبا ... الطبقة الوسطى تتآكل والدخول تتراجع

29 سبتمبر 2022
جورجيا ميلوني تبدأ تشكيل حكومة يمينية جديدة في إيطاليا (getty)
+ الخط -

يمنح انتخاب جورجيا ميلوني، ذات البرنامج الشعبوي والتوجهات اليمينية الفاشية لرئاسة وزراء إيطاليا، إشارة أولى إلى أن التضخم المرتفع المصاحب للتباطؤ الاقتصادي يمكن أن تكون له تداعيات خطيرة على مستقبل النظام الديمقراطي الليبرالي في أوروبا.

ووفق محللين، يواجه الاستقرار السياسي والاقتصادي في العديد من مناطق العالم اختباراً صعباً خلال الأعوام المقبلة، وسط أزمات الحرب الروسية في أوكرانيا وتداعياتها وما ستفضي إليه من تغيير جيوسياسي، ومخاطر ارتفاع معدل التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، والفائدة المصرفية المرتفعة في أنحاء العالم.

ويطارد شبح الشعبوية أوروبا، حيث باتت تنتشر في دول مثل ألمانيا والسويد التي كانت تعد محصنة ضد موجة التطرف السياسي، وكذا في دول أخرى مثل المجر.

ويرى كثيرون أن موجة الشعبوية الاستبدادية تشكل تهديدا وجوديا للنظام العالمي الليبرالي والديمقراطية والأسواق المفتوحة وحماية الأقليات والحريات المدنية والضوابط والتوازنات الدستورية. وكانت واضحة في التصدعات التي أدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتزايد الشكوك في مستقبل الوحدة الأوروبية.

وتشير دراسات أكاديمية حديثة إلى أن الطبقة الوسطى التي تعد الركيزة الأساسية لانتعاش النظام الديمقراطي واقتصاد السوق تتراجع في أوروبا والولايات المتحدة، وسط تآكل الدخول الحقيقية وارتفاع كلف المعيشة والخدمات الضرورية.

على صعيد التضخم وتداعياته الخطيرة في أوروبا، ترى الخبيرة الاقتصادية في المعهد الملكي البريطاني للشؤون الخارجية "تشاتام هاوس"، مانويلا شويلا، أن "جنون التضخم" الذي يعاني منه العالم حالياً شبيه بما مر به العالم في ثمانينيات القرن الماضي، حينما واجه العالم موجة تضخم مفرط، فيما عرف وقتها بـ"صدمة فولكر"، وهو ما اضطر مجلس الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" إلى قيادة البنوك المركزية لزيادة مضطردة وسريعة في أسعار الفائدة.
وحدثت "صدمة فولكر" عندما رفع رئيس المجلس الفيدرالي بول فولكر أسعار الفائدة إلى أعلى نقطة في التاريخ في الثمانينيات، في محاولة لإنهاء التضخم المكون من رقمين في الولايات المتحدة.

ونجحت سياسة فولكر في ترويض التضخم وقتها، ولكن هذا الترويض جاء بتكلفة عالية، حيث ارتفع معدل البطالة بنسبة عالية. ولكن هناك تساؤل حول ما إذا كان العالم سيتمكن من كبح التضخم الجامح عبر السياسات النقدية الحالية، وعما إذا كان التضخم سيستمر طويلاً وتقود أسعار الفائدة المرتفعة إلى إفلاسات في الاقتصادات الناشئة والاقتصادات الرأسمالية ذات النظم الديمقراطية.

وبحسب البيانات الحديثة، فإن أوروبا واليابان وأميركا تعاني من ارتفاع أسعار الفائدة في ظل الزيادات الأخيرة. وباتت قطاعات حيوية مثل الإسكان على حافة الركود الاقتصادي، ويعاني المواطن من كلف الأقساط السكنية المرتفعة بسبب الفائدة على القروض العقارية التي بلغت في أميركا 7%.

وفي بريطانيا، علّقت نحو 6 بنوك تقديم قروض عقارية جديدة. وربما تتجه المصارف، وسط عدم الثقة المتزايدة في المسار الاقتصادي، إلى عدم الإقراض كلياً وتلجأ إلى البيع بالنقد فقط للعقارات المعروضة، وهو ما يهدد بالكساد الكبير في قطاع الإسكان.

وحتى الآن، ساهمت الزيادة السريعة في نسبة الفائدة الأميركية والبنوك المركزية العالمية التي تبعتها في انهيار العديد من العملات العالمية، ولكنها لم تخفض التضخم، بل ربما سيواصل التضخم الارتفاع في أوروبا وبريطانيا، بسبب غلاء فواتير التدفئة خلال الشتاء الذي بات على الأبواب.

ويرى اقتصاديون أن استمرار التضخم الجامح ربما يتواصل رغم الارتفاع المتواصل في الفائدة المصرفية، وذلك لأن هناك عوامل خارجية ساهمت في تغذية التضخم الحالي، أهمها زيادة أسعار المواد الغذائية والغاز الطبيعي والنفط التي ارتفعت بسبب الحرب الروسية وتداعيات العقوبات الغربية على روسيا.

وبالتالي، هناك مخاوف من دخول العالم في دورة "ركود تضخمي" تكون فيها معدلات التضخم مرتفعة، يصاحبها تباطؤ في النمو الاقتصادي وارتفاع في معدل البطالة، وهذا المزيج الحارق ربما يكون البيئة المناسبة لارتفاع معدلات الجريمة وتمزق النسيج الاجتماعي وصعود التيارات المتطرفة، وفق مراقبين.

ومثل هذه الدورة إذا حدثت ستكون لها تداعيات خطيرة على النسيج الاجتماعي والسياسي في دول الديمقراطيات والسوق الرأسمالي في الدول المتقدمة، حيث إنها ستقود تلقائياً إلى تقلص الطبقة الوسطى وصعود التيارات الشعبوية التي تطالب في أوروبا بتفكيك كتلة الاتحاد الأوروبي، وربما تقود الضغوط المعيشية للأسر إلى التصويت للأحزاب اليمينية المتطرفة، مثلما حدث هذا الأسبوع في إيطاليا، حيث صعدت المرشحة جورجيا ميلوني لتصبح رئيسة لوزراء إيطاليا، وهي سياسية يمينية متطرفة بنت برنامجها الانتخابي على سياسات شعبوية وتهدد بعودة الفاشية إلى إيطاليا مرة أخرى وإن كانت بثوب جديد هذه المرة.

على صعيد تداعيات التضخم على تآكل دخول الطبقة الوسطى في الدول الغربية، تشير دراسة في معهد الدراسات السياسية الأميركي "آي بي أس" إلى أن أسعار الغذاء ارتفعت في إسبانيا 30% في يونيو/حزيران الماضي، وأن معدل التضخم ارتفع إلى 10.2%، وهي الأعلى منذ 37 عاماً.

كما يواجه الإسترليني الانهيار لتصل قيمته إلى دولار أو أقل من ذلك خلال الشهور المقبلة، في بلد يعتمد على الاستيراد أكثر من الإنتاج.

وفي منطقة اليورو، تراجع اليورو لأول مرة إلى أقل من دولار، وبالتالي فإن أسعار الوقود والتدفئة سترفع معدل التضخم. وتتكاتف فاتورة الغذاء والطاقة المرتفعة وتفاقم أقساط القروض العقارية مع ارتفاع معدل التضخم لتتآكل الدخول وتتراجع الرواتب والأجور الحقيقية بعد حسم معدل التضخم.
وحسب مسح في مجلة فوربس الأميركية، فإن نحو 29% من الموظفين في أميركا باتوا يسحبون من حسابات الادخار لتلبية حاجاتهم المعيشية. وفي المقابل، فإن الطبقة الثرية ذات الدخل المرتفع جداً تستفيد من ارتفاع أسعار الفائدة، حيث إنها تحصل على توزيعات مرتفعة من أرباح البنوك.

في إسبانيا، وحسب معهد الدراسات السياسية الأميركي، فإن البنوك الإسبانية دفعت توزيعات قيمتها 3.5 مليارات يورو في الربع الأول من العام الجاري، و13.5 مليار يورو في العام الماضي 2021. فالمصارف التجارية في الدول الغربية استفادت خلال الأعوام الماضية من الحصول على تريليونات الدولارات مجاناً من البنوك المركزية، على أمل انتشال الاقتصادات من جائحة كورونا.

من جانبه، يقول مصرف "كريدي سويس" في دراسة هذا الشهر، إن إجمالي الثروة العالمية نما بنسبة 12.7% في عام 2021 رغم الاضطراب العالمي، وهو أسرع معدل سنوي يتم تسجيله على الإطلاق.

ويرى البنك في دراسته أن التضخم ساهم في نمو الثروة للأغنياء الذين ارتفعت ثرواتهم إلى 463.6 تريليون دولار، بينما تراجعت الدخول الحقيقية للطبقة الوسطى. ربما يؤدي ذلك إلى الغبن الطبقي وتغذية النعرات العنصرية ويهدد تماسك النسيج الاجتماعي.

اقتصاد الناس
التحديثات الحية

وتشير دراسة في مجلة "جورنال أوف إيكونومكس"، وهي مجلة أكاديمية دولية متخصصة في السياسة الاقتصادية، إلى أن الطبقة الوسطى تتقلص في أوروبا والدول الرأسمالية، وتهدد بالتالي استقرار النظام الديمقراطي الغربي.
وتقول في دراسة اشترك فيها مجموعة من علماء الاقتصاد والسياسة، إن وجود طبقة وسطى كبيرة ومستقرة تعد العمود الفقري لدول اقتصادات السوق والديمقراطية، لأن لها تأثيرات إيجابية عديدة على الاقتصاد والتطور الاجتماعي.

فالطبقة الوسطى ذات الدخول المرتفعة والمستقرة تساهم في إنعاش الاقتصادات الغربية عبر القوة الشرائية وزيادة الطلب على السلع والترفيه والاستثمار في التعليم. كما أنها من خلال وعيها تلعب دوراً فاعلاً في اختيار القيادات السياسية.

وتعتبر كل من الاقتصادية نانسي بيردسال والاقتصاديين كارول جراهام وستيفانو بيتيناتو في الدراسة، أن الطبقة الوسطى هي "العمود الفقري لكل من اقتصاد السوق والديمقراطية في معظم البلدان المتقدمة".

ويرى محللون أن التفاوت المتزايد في الدخل يغذي ديون الأسرة، عندما تحاول الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط تسهيل استهلاكها في أوقات تقلبات الدخل، مما يؤدي إلى قدر أكبر من عدم الاستقرار المالي.

على صعيد أخطار سياسة الفائدة المرتفعة على ارتفاع معدل البطالة دون أن تخفض التضخم في الدول الغربية، لاحظت دراسة أصدرها اقتصاديان بجامعة هارفارد في الشهر الجاري، أن ارتفاع البطالة يقود إلى صعود التيارات الشعبوية إلى الحكم في الدول الديمقراطية.

وحسب الدراسة، كان ارتفاع البطالة في مناطق الوسط الغربي والولايات الصناعية في أميركا هو السبب الرئيسي في صعود الرئيس دونالد ترامب للحكم.

فقد استغل دونالد ترامب في حملته الانتخابية خسارة أميركا نحو 6 ملايين وظيفة بسبب الواردات الصناعية من الصين ودول جنوب شرقي آسيا. وبالتالي، فإن العالم يواجه مخاطر حقيقية من احتمال "حدوث ركود تضخمي" مصحوب بارتفاع البطالة وتآكل الأجور وانهيار الطبقة الوسطى.

المساهمون