لا صوت يعلو في أميركا حالياً فوق صوت التضخم؛ أسباب ارتفاعه، المدى الزمني الذي يستمر فيه، أفضل السياسات للتعامل معه، وما قد يترتب على تلك السياسات من نتائج أو تداعيات، على المواطن الأميركي ومستوى معيشته من ناحية، وبالتأكيد على أسواق الأسهم والسندات وكل ما يتم التعامل به في وول ستريت.
يسيطر التضخم المرتفع، وتوقعات ارتفاعه أكثر، على فكر المواطن الأميركي العادي، كما السياسيين في واشنطن والمستثمرين في وول ستريت، بعد خبرة أليمة لفترة صعبة من التضخم المرتفع، عاشها الأميركيون خلال الفترة بين عامي 1965 – 1982، في ما عرف بعد ذلك بفترة "التضخم العظيم The Great Inflation".
خلال تلك السنوات، تم التخلي عن النظام النقدي العالمي الذي وُضعت لبناته فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، وشهدت الولايات المتحدة أربع حالات ركود ضخمة، وأزمتين حادتين لنقص الطاقة تسببتا في مضاعفة أسعارها عدة مرات، واضطرت معها السلطات النقدية لفرض قيود على الأجور والأسعار لأول مرة في وقت السلم، وأُجبر بنك الاحتياط الفيدرالي، والعديد من البنوك المركزية حول العالم، على تغيير سياساتهم المعتادة.
أنهى الأميركيون عام 1964 بمعدل تضخم سنوي يزيد عن واحد بالمائة قليلاً، وهي نفسها المنطقة التي استقر فيها على مدار السنوات الست التي سبقتها، ليبدأ بعد ذلك مرحلة من الارتفاع وصلت به إلى أكثر من 14% في عام 1980، وتجاوز فيها عشرين بالمائة في بعض الشهور.
واختلف الاقتصاديون في ترتيب العوامل التي أدت لهذا الارتفاع في التضخم واستمراره لأكثر من سبعة عشر عاماً، والتي شملت ارتفاع أسعار النفط، والمضاربة على العملة، وطمع أصحاب الشركات، وانتهازية اتحادات العمال، إلا أنهم اتفقوا جميعاً على أن السياسات النقدية التي اتبعها البنك الفيدرالي في ذلك الوقت لتمويل عجز الموازنة، والتي أيدها الرؤساء الأميركيون وقتها، كانت العامل الأهم لتأجيج نيران التضخم، بعدما سمحت بزيادة المعروض من النقود وقتها دون وجود زيادة مقابلة في الإنتاج.
ومع ارتفاع معدلات التضخم خلال النصف الثاني من الستينيات، زاد الطلب من حائزي العملة الأميركية لتحويلها إلى ذهب، وفي صيف عام 1971، أوقف الرئيس نيكسون مبادلة الدولار مقابل الذهب من قبل البنوك المركزية الأجنبية. وخلال العامين التاليين، كانت هناك محاولة لإنقاذ النظام النقدي العالمي من خلال اتفاقية سميتسونيان التي لم تدم طويلاً، لينتهي بعدها تقريباً النظام النقدي العالمي الذي تم العمل به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وساهمت في تعميق مأساة التضخم الأميركي أزمات الطاقة المتتالية، التي بدأت مع حرب أكتوبر/ تشرين الأول، حين اتفق العرب للمرة الأولى والأخيرة ربما في تاريخهم على حظر تصدير النفط إلى الدول الي تساند إسرائيل في حرب 1973، فارتفعت أسعاره في الولايات المتحدة، وازداد التضخم وتراجع النمو الاقتصادي. لم يستمر حظر تصدير النفط العربي لأكثر من خمسة أشهر، إلا أنه تسبب في مضاعفة أسعار النفط أربع مرات تقريباً، قبل أن تقوم الثورة الإيرانية عام 1979، وتتضاعف معها أسعار النفط من جديد.
وقتها اعتبر الاقتصاديون أن ذلك النوع من التضخم كان مدفوعاً بالسياسات النقدية التي سمحت بزيادة الإنفاق بصورة تفوق ما يمكن للاقتصاد إنتاجه، الأمر الذي دفع الاقتصاد الأميركي لما يتجاوز طاقاته الإنتاجية، وصولاً إلى استخدام الموارد مرتفعة الكلفة.
وفي الوقت نفسه، كانت تكاليف الإنتاج آخذة في الارتفاع، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، وأيضاً لنقص المعروض منهما.
وفي حين يأتي استقرار الأسعار وإبقاء التضخم عند مستوياته الدنيا المقبولة كثاني أهم هدف للبنوك المركزية حول العالم، بعد تحقيق معدل النمو الحقيقي المرتفع، يأتي خلق الوظائف وتحقيق التشغيل الكامل في المرتبة الثالثة مباشرة.
ولهذا السبب تحديداً خصص البنك الفيدرالي مبالغ ضخمة لخلق المزيد من الوظائف، الأمر الذي تسبب في زيادة عجز الموازنة الأميركية، وفي الوقت نفسه خلق وتمدد عرض النقود، ليستمر ارتفاع معدل التضخم، ولا ينخفض معدل البطالة، وصولاً إلى ما عرف بـ"الركود التضخمي".
في عام 1964، وقبل بداية الأزمة، كان معدل التضخم في حدود 1%، ولم تتجاوز البطالة معدل 5%. بعدها بعشر سنوات، ارتفع معدل التضخم لأكثر من 12%، وتجاوز معدل البطالة 7%، ومع وصول معدل التضخم إلى ما يقرب من 15% في صيف 1980، اقترب معدل البطالة من 8%.
لم تفلح محاولات الرئيسين نيكسون وفورد، بفرض قيود على الأجور والأسعار، في حل الأزمة إلا لبعض الوقت.
ورغم إعلان الرئيس فورد التضخم "العدو رقم واحد" عام 1974، فشلت كل الجهود لاحتواء هذا العدو، واستمر اكتساحه لأميركا لعدة سنوات بعدها، تجاوزت خلالها معدلات الفائدة الأميركية مستوى عشرين بالمائة، الأمر الذي زاد من تعقيد مشكلة البطالة.
تراجعت إنتاجية الأميركيين خلال تلك الفترة، واتسع عجز الميزان التجاري الأميركي مع أغلب دول العالم، قبل أن يتولى بول فولكر رئاسة البنك الفيدرالي، ويركز جهوده على مكافحة التضخم، أملاً في تراجع البطالة آلياً عند انخفاضه، وهو ما حدث بالفعل بعد وضع قيود واسعة على عرض النقود وعلى الائتمان، من خلال رفع معدلات الفائدة وإبطاء عملية تكوين الاحتياطيات.
لا أعتقد شخصياً أن ما حدث خلال تلك السنوات سيتكرر خلال الفترة القادمة، وإن كنت أرى كثيرين يرونه رأي العين.
ربما يكون لديهم من الأدوات والإحصاءات ما يجعلهم في موقف أفضل للحكم، لكن اعتقادي أن ما كان يحدث في عشر سنوات خلال الربع الثالث من القرن الماضي يمكن أن يحدث في سنة واحدة في عصرنا هذا، الأمر الذي يدفعني للاعتقاد بأننا أنهينا دورة التضخم، التي استغرقت ثمانية عشر عاماً القرن الماضي، في ما يقرب من ثمانية عشر شهراً، بدأت مع بداية النصف الثاني من العام الماضي، لنبدأ عام 2022 ملاحظة تراجع معدل التضخم إلى مستوياته المقبولة، وصولاً إلى اثنين بالمائة خلال فصل الصيف، والله أعلم.