في نهاية التسعينات، وبعد عدة أزمات متتالية، ازدهر الاقتصاد الأميركي مع الانطلاقة الكبرى لشركات التكنولوجيا الحديثة، التي استثمرت فيها الأسر الأميركية بكثافة، فارتفعت أسعار أسهم تلك الشركات، وكان أغلبها مرتبطا بالإنترنت وانتشارها الواسع في دول العالم المختلفة.
ومع نهاية الألفية والدخول في ألفية جديدة، تم الترويج لمشكلة عرفت وقتها بأزمة Y2K، أنفقت فيها الشركات والبنوك حول العالم مليارات الدولارات، قبل أن تنفجر الفقاعة المسماة "دوت كوم" في العام 2001، ليهرول الجميع نحو آلان غرينسبان، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي " البنك المركزي الأميركي" وقتها، والذي نجح إلى حدٍ كبير في منع امتداد الأزمة التي اندلعت في سوق أسهم شركات التكنولوجيا إلى الاقتصاد الحقيقي.
ومع احتدام الأزمة المالية العالمية في العام 2008، التي عرفها البعض باسم أزمة الرهون العقارية، لم يتمكن مشترو العقارات من دفع أقساط قروضها، وانخفضت أسعارها بصورة كبيرة حالت دون بيعها، وزهد الجميع في المشتقات التي كانت تجارتها رائجة، فهوت أسعارها، وخسرت العديد من المؤسسات المالية مليارات الدولارات فيها، وتوقفت البنوك عن إقراض بعضها البعض، فكان الركود العظيم، ليلجأ الجميع، بمن فيهم العديد من البنوك المركزية والتجارية داخل وخارج الولايات المتحدة، إلى البنك الفيدرالي، الذي نجح بالفعل في احتواء الأزمة، رغم وجود ضحايا، لتبدأ بعدها أطول فترة انتعاش في تاريخ الاقتصاد الأميركي، والتي امتدت لأكثر من أحد عشر عاماً.
بعد الانتعاش الاقتصادي الطويل، جاءت أزمة وباء كورونا التي أدخلت الاقتصاد الأميركي والعالمي في ركود سريع، حين أعلن كبار مسؤولي الصحة انتشار فيروس كورونا وتوقعوا إصابة مئات الآلاف به (كانوا شديدي التفاؤل)، ومن ثم تأثُر الاقتصاد الأميركي وتراجع النمو وإيرادات الشركات ومعدلات الإنفاق والاستثمار والربحية خلال الربع الأول من عام 2020.
لم ينتظر البنك الفيدرالي دعوات التدخل، حيث سارع بتخفيض معدلات الفائدة إلى صفر في يوم أحد (عطلة رسمية في الولايات المتحدة)، معلناً عزمه على القيام بأكبر حزمة من سياسات التيسير الكمي والكيفي لحماية بلاده من الوقوع في أزمة مالية كبرى.
نجح البنك الفيدرالي بسياساته في التغلب على ركود وباء كورونا، إلا أنه تأخر في عكس سياساته في الوقت المناسب، لتشهد البلاد أكبر موجة تضخمية في أكثر من أربعة عقود.
اتجهت الأنظار مرة أخرى إلى البنك المركزي الأكبر في العالم، داعية إياه لتبني السياسات النقدية اللازمة لمحاربة التضخم، وتحقيق الهبوط الآمن للاقتصاد.
تردد البنك الفيدرالي لبعض الوقت معتقداً وربما متمنياً، أن يتراجع معدل التضخم بعد حل أزمة سلاسل الإمداد حول العالم وزيادة عدد الحاصلين على اللقاح، ومن ثم تراجع الإصابات وعودة الاقتصاد إلى نشاطه المعتاد، قبل أن يأتي الغزو الروسي لأوكرانيا ويتسبب في ارتفاع أسعار الطاقة والحبوب، ليعاود التضخم الأميركي والعالمي ارتفاعه، وتزداد المخاوف من عدم قدرة البنك هذه المرة على السيطرة على الأمور، دون التسبب في ركود اقتصادي في البلاد.
رفع البنك الفيدرالي سعر الفائدة على أمواله في مارس / آذار بنسبة ربع بالمائة، ثم في مايو / أيار بنسبة نصف بالمائة، وأخيراً منتصف الشهر الجاري بنسبة ثلاثة أرباع بالمائة، قبل أن يعلن لأول مرة تخوفه من خروج التضخم عن السيطرة بسبب عدم تحكمه في كثير من العوامل المتسببة فيه.
وفي المؤتمر الصحافي الذي واكب الإعلان عن رفع الفائدة الأسبوع الماضي، أوضح باول للصحافيين، وكأنه يوجه كلامه لرؤساء البنوك المركزية حول العالم، أن التضخم قد ينتج من أسباب ترتبط بجانب الطلب، بسبب زيادة عرض النقود في الأسواق دون وجود زيادة مقابلة في الإنتاج، وأنه قد يحدث أيضاً بسبب مشكلات في جانب العرض، مثل ارتفاع الأسعار العالمية، أو تعطل سلاسل الإمداد.
وأوضح باول أن التضخم الحادث حالياً في الاقتصاد الأميركي نتج من مشكلات في الجانبين، العرض والطلب.
ومع تأكيده أن رفع معدلات الفائدة، وإنهاء برامج التيسير الكمي يستهدفان التعامل مع المشكلات في جانب الطلب، أشار باول إلى عدم تحكمه في مشكلات جانب العرض المتسببة في ارتفاع معدل التضخم، ومنها ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، وتعطل إمدادات الحبوب بسبب الحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين على البضائع في عمليات التجارة العالمية، وكأن لسان حاله يقول "احنا عملنا اللي علينا والباقي على الله".
لا يبدو رئيس البنك الفيدرالي هذه المرة مسيطراً على الأمور، وإن كان الوقت مازال مبكراً للحكم على نجاحه أو فشله، ويتوقع خبراء الاقتصاد مزيداً من الآلام للاقتصاد وأسواق المال، مع وجود احتمال لاضطرار الشعوب والحكومات للتعايش مع هذا الألم بسبب استمرار ارتفاع معدلات التضخم لبعض الوقت، خاصة مع ضعف تأثير رفع أسعار الفائدة على أسعار السلع التي يعتبر الطلب عليها غير مرن، كالغذاء والطاقة.
ويرى البعض أن رسائل البنك الفيدرالي في الفترة الأخيرة يتعارض بعضها مع بعض، وهو ما يتسبب في غموض توجهات البنك، وعدم معرفة أيهما يأتي على رأس أولوياته، القضاء على التضخم أو حماية الاقتصاد من الانكماش.
فقد باول ثقة الكثيرين بعد أن ظل عاماً كاملاً يؤكد قدرته على السيطرة على التضخم والعودة به إلى 2% لنفاجأ به مستقراً فوق 8%، وبعد أن تسبب العام الماضي في تكون العديد من الفقاعات في أسواق الأسهم والعقارات والائتمان.
وفي محاولاته الحالية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، يساهم باول في انفجار العديد من تلك الفقاعات، حيث خسرت مؤشرات الأسهم 25% - 30% من قيمها، وفقدت السندات أكثر من 20% من قيمها، وهوت أسعار أغلب العملات المشفرة وصولاً لأقل من ثلث ما كانت عليه قبل نهاية العام الماضي، لتتجاوز خسائر الأسر الأميركية وفقاً لبعض التقديرات خمسة عشر تريليون دولار، تمثل أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي الأميركي في عام، ولتنذر بهبوط عنيف للاقتصاد الأميركي، يضع البنك الفيدرالي ورئيسه تحت مقصلة التاريخ.