بات المواطن المصري مخيراً من وجهة نظر وسائل إعلام محلية بين أمرين لا علاقة تربط بينهما على الإطلاق، الصبر على موجة قفزات أسعار السلع والخدمات المتواصلة التي لا تتوقف منذ ما يزيد عن العام ونصف العام، وتحمل الغلاء الفاحش والتضخم المستعر والذي وصل في يوليو/تموز الماضي لأعلى معدل له في 60 سنة.
وإلا فالبديل خطر وهو توقف البلاد عن سداد ديونها الخارجية والتي تتجاوز قيمتها 165 مليار دولار وفق أحدث أرقام، وزيادة مخاطر الدخول في نفق التعثر المالي المظلم، وتعمق أزمة النقد الأجنبي وتراجع الجنيه مقابل الدولار.
مثلا، عندما يشكو المواطن من حدوث زيادات قياسية غير مسبوقة في سعر البصل في الأسواق المحلية، بل وندرة المعروض منه، يأتي الرد سريعا من قبل بعض وسائل الإعلام والإعلاميين بأن الدولة تسمح بتصدير البصل إلى الخارج للحصول على دولار ونقد أجنبي يتيح للحكومة سداد أعباء الديون الخارجية، وأن صادرات البصل وغيره من السلع الغذائية قد تعوض التراجع الأخير في الإيرادات الدولارية من أهم نشاطين اقتصاديين وهما تحويلات المغتربين والصادرات الخارجية.
الغريب أنك تجد سعر البصل المصري في الأسواق الخارجية، بما فيها أسواق الخليج الثرية والتي تتمتع بقدرات شرائية قوية، أقل من سعره داخل مصر
وبالتالي، ووفق وجهة النظر التي يسوقها هؤلاء ويحاولون إقناع العامة بها، فإن على المواطن ألا يشكو من قفزة سعر البصل حتى لو تجاوز أكثر من 35 جنيها أي ما يزيد على 11 دولارا في بعض الأوقات وذلك لأول مرة في تاريخ البلاد.
وعليه ألا يتبرم أو يضيق أو يتذمر، أو حتى يكتب مجرد بوست على فيسبوك أو تغريدة على تويتر، لأن إيرادات صادرات البصل المصرية باتت تغزو أسواق العالم وتجلب العملة الصعبة للبلاد.
والغريب في الأمر أنك تجد سعر البصل المصري في الأسواق الخارجية، بما فيها أسواق الخليج الثرية والتي تتمتع بقدرات شرائية قوية، أقل من سعره داخل الأسواق المصرية المحلية رغم مصروفات الشحن والجمارك والتخزين وفروق سعر صرف العملة.
ولذا يضرب المصري المغترب كفا على كف مستغربا من قفزات بعض أسعار السلع المصرية في الداخل ورخصها في الخارج.
وحتى لو افترضنا أن سعر السلعة في الداخل يقل كثيرا عن سعرها في الخارج، وأنه من الأفضل التوجه للتصدير لجلب الدولار والاستفادة من السعر المرتفع في الأسواق العالمية، فهل حرمان المواطن من منتجات بلاده وإفادة المستهلك الأجنبي وتوفير السلع الضرورية لدول العالم باتت من أولويات الحكومة، والأجدى للسياسات الاقتصادية المتبعة وزيادة الحصيلة الدولارية؟
لا يقف الأمر على سلعة البصل بل امتد لسلع غذائية أخرى منها المانغو والبرتقال واليوسفي والثوم والطماطم والخيار وغيرها، كما امتد لمواد البناء والتشييد الرئيسية مثل الحديد والإسمنت والبويات، وكذا للأسمدة والأدوات المنزلية والكهربائية، وهي السلع التي تحتاجها السوق المصري بشدة هذه الأيام في ظل الغلاء المتواصل وقفزات الأسعار.
بات الخيار المتاح الآن أمام المواطن هو أن يأكل أم تسدد الحكومة أعباء الديون؟ يتحمل الغلاء أم تدخل الدولة في حالة تعثر مالي وتكرر سيناريو لبنان؟
وعندما تعم العتمة ربوع مصر، مدنها وقراها وشوارعها بل وعاصمتها القاهرة، يتم سرد مبررات عدة في مقدمتها تصدير الدولة الغاز الطبيعي للخارج للحصول على دولار يساعدها في سداد ديون صندوق النقد الدولي وغيره من الدائنين.
وبالتالي فإن على المصريين تحمل العتمة مقابل الالتزام بسداد أعباء الديون الخارجية وفق التبريرات التي يقدمها إعلاميين من وقت لآخر.
إذاً، بات الخيار المتاح الآن أمام المواطن هو أن يأكل أم تسدد الحكومة أعباء الديون؟ يتحمل الغلاء أم تدخل الدولة في حالة إفلاس وتعثر مالي وتكرر سيناريو لبنان الكارثي؟
يختفي الأزر وغيره من السلع الغذائية الشعبية وترتفع الأسعار، أم نتحول إلى دولة هشة ماليا ومتعثرة ماليا مثل لبنان وسريلانكا والأرجنتين وغيرها من دول العالم التي تواجه أزمات مالية حادة؟
ببساطة يتعرض المواطن المصري لحملة ابتزاز صارخة وغسل دماغ من قبل صانعي محتوى وإعلاميين لا يدركون أن المهمة الأولى لأي حكومة هي توفير الرفاه للمواطن والخدمات الأساسية من تعليم وصحة وفرص عمل ومواصلات عامة وسلع بتكلفة مناسبة لدخله، أما في ما عدا ذلك فهو "هري" لا علاقة له بأي منطق اقتصادي أو المبادئ التي تنظم الأسواق. وربما يدركون.
تزيد حالة الابتزاز تلك عندما لا يجد المواطن بديلا مناسبا للسلع المختفية أو التي تشهد قفزات غير مبررة في أسعارها.
القاعدة تقول إن الدول تفرض حظرا على صادرات منتجاتها سواء الزراعية والغذائية أو غيرها في حال وجود عجز في الداخل حماية للأسواق المحلية وقبلها المواطن، وكبح أي زيادات متوقعة في معدل التضخم، وبالتالي حماية الأسواق والمستهلك ومعهما العملة الوطنية والقدرة الشرائية.
خذ على سبيل المثال الهند، أكبر مُصدِّر للأرز في العالم، والتي حظرت مؤخرا تصدير الأرز عندما قفزت أسعاره في السوق المحلية رغم زيادة السعر خارجيا، وتعطش الأسواق العالمية لواحد من أهم الحبوب الغذائية الشعبية، خاصة مع تراجع إنتاج الصين من الأرز بسبب الفيضانات. وقبلها حظرت الهند القمح وغيره العديد من السلع الغذائية. وفي إبريل/نيسان 2021، حظرت فجأة صادراتها من لقاحات كوفيد-19.
حظرت أكثر من 22 دولة حول العالم تصدير سلع ومنتجات رئيسية بهدف الحفاظ على استقرار الأسواق المحلية
وتكرر السيناريو في دول عدة منها الأرجنتين وأستراليا والصين وماليزيا وروسيا وأوكرانيا وكازاخستان وكوسوفو وصربيا حيث حظرت تلك الدول وغيرها تصدير منتجاتها خاصة من الأغذية في حال حدوث نقص في الأسواق أو زيادة في الطلب أو مبالغة في السعر بسبب حدوث جفاف أو فيضانات أو غيرها من الأسباب. والهدف بالطبع هو عدم تعريض أمن الدولة الغذائي ومستهلكيها للخطر، وكبح أي غلاء متوقع في الأسعار.
وفي مايو/أيار 2022 حظرت أكثر من 22 دولة حول العالم تصدير سلع ومنتجات رئيسية بهدف الحفاظ على استقرار الأسواق المحلية، وحظرت بيلاروسيا في سبتمبر/أيلول الماضي تصدير الحبوب من البلاد لمدة ستة أشهر كاملة.
وحظرت إندونيسيا، أكبر دولة منتجة لزيت النخيل في العالم، صادرات أكثر زيت نباتي استعمالاً في العالم في خطوة كانت صادمة للدول المستوردة ومنها مصر وتونس والجزائر والعراق ولبنان وسورية واليمن والسودان والعديد من الدول العربية، خاصة وأنه صاحبت الخطوة موجة تضخم عالمية ومشاكل في سلاسل التوريد، واشتعال تضخم أسعار الأغذية المتصاعد على المستوى العالمي.
المثل المصري الشهير يقول: "ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع"، والجامع هنا ليس المسجد بالمعنى المتداول، بل جامع الضرائب.
والمعنى هنا أن احتياجات البيت والمواطن المصري تفوق أي اعتبار، حتى لو كان الهدف هو جمع عدة ملايين من الدولارات من الخارج توجه لسداد فاتورة ديون لا علاقة للمواطن بها، ومعالجة أزمة شح الدولار، خاصة وأن الأموال المقترضة لم توجه كلها لإقامة مستشفيات ودور رعاية صحية ومدارس ومعاهد فنية وجامعات ومصانع ومشروعات صغيرة ومتوسطة، ولم تساهم في توفير فرص عمل مباشرة، بل تم توجيه معظمها لإقامة مشروعات لا تمثل أولوية بالنسبة له.