البدري فرغلي... رحيل "صوت العمال الضعفاء" في مصر

15 فبراير 2021
توفي "نائب الضعفاء" الاثنين (تويتر)
+ الخط -

على دراجته القديمة المتهالكة، ظل المناضل العمالي اليساري والنائب المصري البدري فرغلي، يذهب كل صباح طوال عقود، إلى عمله بالترسانة البحرية في مدينة بورسعيد حتى إحالته للتقاعد، وهي الدراجة التي يستخدم مثلها معظم شعب بورسعيد، إذ لم تغير عضويته في البرلمان شيئاً من أسلوب حياته البسيط الذي يشبه حياة الملايين من الشعب الفقير.

ورغم تأييده مظاهرات 30 يونيو، ومخرجات الانقلاب العسكري في 2013، فقد ظلّ مدافعاً عن حقوق العمال، وأرباب المعاشات، في مواجهة السلطات والحكومات المصرية التي تعاقبت بعد الانقلاب، وحتى رحيله.

أنهى "نائب الضعفاء" كما كان يطلق عليه، رحلته في الحياة بعد أن أدى مهمته في نصرة الفقراء من أصحاب المعاشات، واستطاع أن يحصل على حكم من المحكمة الإدارية العليا لصرف "العلاوات الخمسة".

مسيرة نضالية
قضى البدري فرغلي، الذي رحل اليوم الاثنين، غالبية سنوات عمره في النضال الوطني والشعبي، بدأها وهو في سن صغيرة في المقاومة الشعبية بمدينة بورسعيد، واستمرت حتى أيامه الأخيرة مدافعاً عن حقوق أصحاب المعاشات.

ولد فرغلي في مدينة بورسعيد عام 1947، في أسرة "تحت خط الفقر" كما قال في أحد حواراته الصحافية، ووالده كان عاملاً بالشحن والتفريغ في الميناء، ولديه ستة إخوة، وبعد حصوله على الابتدائية ترك الدراسة وعمل بالشحن والتفريغ مع أبيه ليساعده في نفقات البيت.

ويضيف "لم أعرف طوال طفولتي وشبابي معنى الترفيه، لكنني كنت أهوى القراءة، وكنت أستأجر الكتب من المكتبة، لأقرأها ثم أعيدها، لأني لا أملك ثمنها، وقد قرأت كتب التاريخ، وكل ما كتب عن الثورة الفرنسية لإعجابي بها".

يقول فرغلي أيضاً "هذه الحياة القاسية هي التي خلقت داخلي روح التمرد والنضال بحثاً عن الحقوق، كنت أكره الفقر، وأشعر أننا نستطيع قتل الفقر بالحقوق والواجبات وهو ما جعل زملائي يلتفون حولي، ويستأمنوني على مشكلاتهم، كما أنني كنت العامل الوحيد الذي يقرأ ويكتب، وهو ما جعلهم يشجعوني على ترشيح نفسي لنقابة عمال الشحن، وكنت دائماً صادقاً معهم وأميناً على مشكلاتهم وهو ما جعلني نائباً للنقيب ثم نقيباً على مدى 30 عاماً".

ويضيف "زملائي بالشحن كانوا أيضاً وراء دفعي للترشح إلى البرلمان، وهم الذين تولوا عمل الدعاية لي والإنفاق عليها بقروشهم القليلة في مواجهة المنافسين المليونيرات، وحينما نجحت أول مرة في انتخابات البرلمان 1990، أخذني أحد أصدقائي لشراء حذاء جديد، لسوء حالة حذائي، وخلال عودتي، قابلني أحد معارفي وفوجئت به ينظر إلى حذائي ويسألني، "أنت اشتريت حذاء جديد؟"، منذ هذه اللحظة أدركت أن الناس تضع المسؤول أو النائب تحت عيونها وتراقب كل تصرفاته، وقررت من وقتها ألا أنفصل عن الناس، وأن أعيش مثلهم ووسطهم، فلم أغيّر ملابسي، ولم أترك دراجتي البسيطة التي كانت وسيلة مواصلاتي الوحيدة قبل فقدان بصري، وكنت أذهب بها  إلى كل لقاءاتي حتى مع المحافظ والمسؤولين. ولهذا السبب أحبني أهلي في بورسعيد".

وعن فقدانه البصر يقول فرغلي "لا يمكن أن أنسى يوم شم النسيم عام 2011، لأنه اليوم الذي فقدت فيه بصري تماماً بسبب وجبة فسيخ فاسدة، ورغم أنّ الدولة أرسلتني للعلاج في الخارج، إلا أن العلاج فشل، وضاع نظري نهائياً، ورغم حزني إلا أنني قررت أن أواصل حياتي كما اعتدت، وبدأت المطالبة بحقوق أصحاب المعاشات من خلال رحلة طويلة خضتها وأنا فاقد البصر، لكنني كنت أرى بعيون أصدقائي والناس الذين استأمنوني على حقوقهم".

ويروي الناشط السياسي محمد صالح أنه في المؤتمر الأول لمنبر اليسار الذي تحول إلى حزب "التجمع الاشتراكي الوحدوي" فيما بعد قرار الرئيس أنور السادات بعودة الأحزاب عام 1975، وقف البدري فرغلي يقول كلمته وهو يرتدي حذاء من الكاوتشوك، ويطلق العبارات النارية التي تحض على الجسارة في المواجهة، ويضرب المثل بتضحيات الاشتراكيين في تشيلي.

ويقول صالح إنّ "المشهد الختامي للبدري كان وهو يقود أصحاب المعاشات من خلال تنظيمهم الذي كان له الدور الأول في تأسيسه، ليؤكد بالفعل وليس بمجرد الخطاب، الحق الذي لا بد من انتزاعه في التنظيم المستقل ترسيخاً لمفهوم الديمقراطية التشاركية".

معركة المعاشات
وبالتوازي، خاض فرغلي حربه الأطول والأصعب، من أجل استرداد أموال أصحاب المعاشات في مصر، طارقًا كل الأبواب النقابية والقانونية والقضائية، حتى انتصر بحكم تاريخي، قد يكون سببًا في ستر ملايين الأسر بعد وفاته.

فقد أسس فرغلي، الاتحاد العام لنقابات أصحاب المعاشات، ليكون الممثل الشرعي الوحيد لما يقرب من عشرة ملايين صاحب معاش، وقد اكتسب هذه الشرعية من كونه تنظيما ديمقراطيا أُشهر في وزارة القوى العاملة المصرية برقم 982/2 بتاريخ 31/7/2013 واعتُمدت لائحة نظامه الأساسي من إدارة الاتصال النقابي بهذه الوزارة/ وأول اختصاص قانوني لهذا الاتحاد هو الدفاع عن حقوق أصحاب المعاشات ورعاية مصالحهم المشتركة، ورفع مستواهم الاقتصادي والاجتماعي. 

وكانت أزمة أموال التأمينات الاجتماعية والمعاشات، قد بدأت مع إنشاء بنك الاستثمار القومي عام 1980 والذي استثمر في أموال صناديق التأمينات، وأصبحت تلك الأموال وفوائدها ملكاً لوزارة المالية.

ثم في عام 2005 صدر قرار بضم وزارة التأمينات الاجتماعية إلى وزارة المالية، وإنشاء حساب بنكي موحد للعمليات المالية الخاصة بصناديق التأمين الاجتماعي إلى العمليات المالية لقطاع الموازنة العامة للدولة وبنك الاستثمار القومي بداية من يوليو/ تموز 2006.

ثم تفاقمت أزمة أصحاب المعاشات مع الحكومة، عام 2006 عندما بدأت هيئة التأمينات الاجتماعية في مصر، حساب معاشات المحالين للمعاش دون إضافة 80% من العلاوات التي حصل عليها المؤمن عليهم في آخر 5 سنوات قبل بلوغهم سن المعاش، إلى الأجر المتغير، ما يؤثر في النهاية على قيمة المعاش الذي يحصلون عليه.

وبناءً عليه، تحرك مجموعة من أصحاب المعاشات وعلى رأسهم البدري فرغلي، وأقاموا دعوى قضائية، ضد الحكومة استناداً إلى حكم سابق للمحكمة الدستورية العليا في 2005، يقضي بأحقية أصحاب المعاشات الذين خرجوا على المعاش بالاستقالة، في استعادة هذه العلاوات. وأقامت مجموعة أخرى من أصحاب المعاشات، دعوى أخرى خلال عام 2013 أمام المحكمة الدستورية العليا، للطعن على قرار هيئة التأمينات الاجتماعية، على اعتبار أنه ليس دستوريًا.

أصحاب المعاشات في مصر (العربي الجديد)
قاد البدري فرغلي احتجاجات أصحاب المعاشات للحصول على حقوقهم (العربي الجديد)

واستمرت المعركة القضائية لسنوات عدة حتى فبراير/ شباط 2019، حيث حسمت المحكمة الإدارية العليا قضية علاوات أصحاب المعاشات، بأن قضت برفض الطعون المقامة من وزارة التضامن الاجتماعي، وأيدت حكم محكمة القضاء الإداري الذي قضى في منطوقه بإضافة 80% من قيمة آخر 5 علاوات الى الأجر المتغير لأصحاب المعاشات.

ثم في مارس/ آذار 2019، أمر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بسحب الاستشكال على الحكم الصادر بشأن العلاوات الخاصة لأصحاب المعاشات، لينهي هذا العراك القضائي الطويل، ويعلن انتصار فرغلي وأصحاب المعاشات في مصر بأموالهم كاملة غير منقوصة.

شعبية كبيرة
وتمتع البدري فرغلي بشعبية كبيرة، وتاريخ وطني بدأه بالمشاركة في المقاومة الشعبية وعمره 18 عاماً، وكانت له خبرة سياسية طويلة كنائب في البرلمان عن مدينة بورسعيد لأربع دورات متتالية حظي خلالها باحترام الجميع. وحين ترك البرلمان خاض معركة أخرى طويلة للمطالبة بحقوق أصحاب المعاشات، من خلال رئاسته اتحاد أصحاب المعاشات.

وعن الحرب يقول فرغلي "عشت روح الحرب ببورسعيد بدءاً من العدوان الثلاثي عام 1956، حينما كان عمري 9 سنوات، وكنت أتدرب لكنني لا أحمل السلاح، وفي سن 18 عاماً كنت عضواً قيادياً بالمقاومة الشعبية، ولم أترك السلاح إلا بعد انتصارنا في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وخلال الاستنزاف كنت حكمدار جماعة داخل فصيلة، ومجموعتي تضم عشرة أفراد، وشاركت في أعمال عسكرية كثيرة، منها المشاركة في يوم الدفاع الجوي من خلال فريق السد الناري الذي يتصدى للطيران المنخفض، كما شاركت كثيراً في التصدي لعمليات الإبرار الجوي للطائرات الإسرائيلية".

أما عن أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011 وما بعدها فقد علّق البدري على جريمة قتل المتظاهرين في ميدان التحرير في20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، وقال إنها "جريمة" ولذلك يعتقد أنّ الطبقات الشعبية لن تسكت على جرائم السلطة الحاكمة في مصر.

وأضاف فى إحدى حواراته "على العسكر أن يعودوا إلى الثكنات، ويكرسوا أنفسهم لحماية حدود الوطن. المجلس يحمي حاليّاً أنصار النظام السابق، ويدافع عن الخصخصة، وينتهك حقوق العمال، لم يخلع حتى فاسداً صغيراً من مصرف قروي صغير. لن يسكت الشعب. وأنا أطالبه باستكمال ثورته حتى النفس الأخير، فمصر لن تعود إلى الوراء. مصر مدنية ديمقراطية، لا عسكرية ولا إسلامية".

الأحزاب تنعى
ونعى حزب "التجمع ، برئاسة النائب سيد عبد العال، "المناضل الكبير" البدري فرغلي، عضو الأمانة العامة للحزب، وأحد مؤسسيه، ورئيس اتحاد المعاشات المصري، وعضو مجلس النواب السابق.

وقال، في بيان، إنّ "البدري، كان علامة بارزة بالبرلمان المصري، ومدافعا عن الوطن، ويحظى بحب كبير من كافة الأفراد والهيئات والأحزاب وكافة المؤسسات، لما قدمه من أعمال لصالح الوطن، وخاض معارك كبيرة مع وزارة التضامن الاجتماعي ودافع عن قضايا أصحاب المعاشات لسنوات عديدة حتى حصل على حقوقهم كاملة".

كما نعى حزب "الوفد" ببورسعيد البدري فرغلي، وقال بيان، إن ّالوفد "بكل قياداته وأعضائه ينعى الفقيد الغالي الذي دافع عن بورسعيد وقضاياها تحت وخارج قبة البرلمان وواجه الحكومة في عددا من قضايا الفساد، وكان رفيقاً في طريق النضال والكفاح ضد قضايا المدينة الحرة"، وتقدمت لجنة الوفد ببورسعيد وكل الوفديين "بخالص العزاء لأسرته ولشعب بورسعيد ولجميع الوطنيين في مصر".

أما نجله ياسر فكتب على صفحته على "فيسبوك" يقول: "أهالينا.. أحبكم أبي أكثر من نفسه فكونوا بجواري ولو بالدعاء".

المساهمون