لا أحد ينكر الإنجازات الاقتصادية الكبيرة التي حققها حزب العدالة والتنمية منذ تسلّمه السلطة في تركيا في عام 2002.
فقد تسلم الحزب دولة مفلسة ومنهارة اقتصاديا وماليا، تتسول القروض من الدائنين الدوليين، وفي مقدمتهم صندوق النقد والبنك الدوليين، حتى تسدد أعباء ديونها الخارجية وتغطي فاتورة الواردات وفي مقدمتها الأغذية والوقود والملابس والسلع المنزلية.
كما تسلم دولة تشهد بشكل متواصل إفلاسات جماعية للشركات، وإغلاق آلاف الشركات التجارية، وتعثراً داخل القطاع المصرفي والمالي، وانخفاض الاستثمارات المحلية والأجنبية مع أسعار فائدة قياسية وصعوبة في الحصول على التمويل، وارتفاع البطالة إلى مستويات مرعبة بسبب إغلاق الشركات والمصانع.
تسلم حزب العدالة والتنمية دولة مفلسة ومنهارة اقتصاديا وماليا، تتسول القروض من الدائنين الدوليين، وفي مقدمتهم صندوق النقد والبنك الدوليين
واستطاع الحزب بقيادة رجب طيب أردوغان النهوض بالدولة اقتصاديا، وإحداث قفزات وطفرات على مستوى مؤشرات الاقتصاد الكلي والأنشطة المختلفة، خاصة على مستوى السيطرة على التضخم الجامح، وإقامة مشروعات ضخمة في مجال البنية التحتية والطرق والسكك الحديدية والمطارات والموانئ والأنفاق والمساكن والمدارس والجامعات والمستشفيات والمواصلات العامة، وتقوية العملة المحلية وإعادة الهيبة لليرة وحذف 6 أصفار منها، وسداد كل ديون صندوق النقد الدولي والاستغناء عن خدماته وروشتاته القاتلة.
كما نجحت تركيا في غضون سنوات في إحداث قفزة في الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة حجم الاقتصاد الكلي من 236 مليار دولار في عام 2002 إلى 906 مليارات دولار في عام 2022، وهو ما أهّلها للانضمام إلى مجموعة العشرين التي تضم أقوى الاقتصادات في العالم، مع زيادة الدخل الفردي وخفض الدين العام وتخفيض عجز الموازنة ونسبة الفوائد في مديونية الدولة.
وفي الوقت الذي كانت خزانة تركيا مفلسة وفارغة تماما قبل وصول حزب العدالة والتنمية للحكم وغير قادرة على سداد ديونها الخارجية والمحلية وتغطية النفقات العامة ومخصصات التعليم والصحة وغيرها من الخدمات المرتبطة بالجمهور، قفزت الإيرادات الدولارية للدولة التركية إلى أكثر من 300 مليار دولار سنويا، منها 254 مليار دولار من نشاط واحد هو الصادرات التي حققت طفرة نوعية، سواء على مستوى الأرقام أو الدول المستهدفة أو نوعية الصادرات التي ضمت في السنوات الأخيرة الأسلحة الدفاعية والطيران والسيارات.
بل باتت العقارات التركية جاذبة لمواطني ومستثمري عشرات الجنسيات حول العالم، وفي مقدمتها روسيا والصين وإيران ودول الخليج والعراق. فالأجانب باتوا يمتلكون عقارات في تركيا بقيمة تزيد عن 41.3 مليار دولار في السنوات التسع الأخيرة، إضافة إلى شراء أراضٍ بمليارات أخرى.
قفزت الإيرادات الدولارية للدولة إلى أكثر من 300 مليار دولار سنويا، منها 254 مليار دولار من الصادرات التي حققت طفرة نوعية
كما باتت الاستثمارات الأجنبية المباشرة تتدفق على تركيا من كل أسواق العالم، رغم الضغوط التي تمارسها الحكومات الغربية عليها. وبلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا 254.2 مليار دولار على مدى 21 عاماً. كما ارتفع عدد الشركات الأجنبية من 5.6 آلاف شركة في 2002، إلى 79.5 ألفا مطلع 2023.
وبفضل الاستقرار السياسي الملحوظ، نجحت تركيا في تطوير قطاعها الصناعي والإنتاجي بما فيها الصناعات الدفاعية، وتطوير قطاع الزراعة وتكنولوجيا المعلومات، وتكوين طبقة وسطى داعمة للاقتصاد والاستهلاك المحلي، وخفض معدل البطالة.
كما نجح أردوغان في تحويل أحلام الأتراك إلى واقع، فقد تم الإعلان عن اكتشاف حقول ضخمة من النفط والغاز بأيد وخبرات محلية، وبدأ هذه الحقول الإنتاج بالفعل، ووصل الغاز التركي إلى بيوت المواطنين وبالمجان لمدة شهر قبل الانتخابات مباشرة، واقتحمت تركيا وبقوة إنتاج الطائرات المسيّرة والتي صدّرتها إلى العديد من دول العالم، كما أنتجت أول سيارة كهربائية، وأول حاملة طائرات، وإنتاج أول طائرة مقاتلة في تاريخ البلاد، وافتتاح مركز مالي عالمي في إسطنبول.
ودخلت تركيا نادي دول الطاقة النووية في العالم، عبر تدشين محطة "أكويو" النووية في ولاية مرسين، التي من المتوقع أن تدخل الخدمة في عام 2028 وبتكلفة 20 مليار دولار، وهي محطة مخصصة لأغراض إنتاج الكهرباء وتساهم في خفض كلفة الطاقة المستوردة.
منذ 2016 دخلت تركيا دوامة اقتصادية لأسباب عدة، منها محاولة الانقلاب العسكري في 2016، ثم العقوباتالغربية المتواصلة، ثم كورونا وكارثة الزلزال
لكن منذ عام 2016 دخلت تركيا دوامة اقتصادية لأسباب محلية وخارجية، منها محاولة الانقلاب العسكري في 2016، ثم العقوبات الأميركية والغربية المتواصلة على تركيا، والحرب الشرسة التي أعلنها دونالد ترامب على الاقتصاد التركي وإعلانه عن العمل على تدمير الليرة التركية.
ثم مرور تركيا بأزمة كورونا التي أثرت بقوة على قطاعها السياحي، وبعدها قفزات أسعار الطاقة والفائدة والتضخم، وأخيرا كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد في 6 فبراير/شباط الماضي وأودى بحياة أكثر من 50 ألفا.
وتسببت تلك الدوامات وغيرها في الضغط الشديد على العملة التركية التي تراجعت بشكل حاد مقابل الدولار، مع زيادة التضخم إلى معدلات قياسية، وزيادة الضغوط على الأسرة التركية، رغم زيادة معدلات الأجور عدة مرات، آخرها ما أعلنه أردوغان قبل أيام والبالغ 45% تصرف بداية من شهر يوليو/تموز المقبل.
وإزاء هذا المشهد المعقد، عمل أردوغان على عدة جبهات، منها خفض الأسعار وزيادة الأجور وتقوية الإيرادات الدولارية وإحداث قفزة في الصادرات والاستثمارات المباشرة والحفاظ على معدل نمو وتوفير التمويل الرخيص للقطاع الخاص.
كما طبق سياسة اقتصادية غير تقليدية، حيث خالف البنك المركزي التركي السياسات المطبقة من قبل البنوك المركزية الكبرى بشأن رفع سعر الفائدة وتشديد السياسة النقدية.
إذ خفضت تركيا أسعار الفائدة بهدف الحفاظ على معدل نمو عال وموجب وتنشيط الاستثمار وخفض تكلفة الأموال في المجتمع، سواء للأفراد المقترضين أو رجال الأعمال والمستثمرين، كما سمحت حكومة أردوغان بخفض قيمة العملة بدرجة كبيرة، للاستفادة من الخفض في إحداث طفرة في حصيلة الصادرات، وهو ما جرى بالفعل.
كان المشهد الاقتصادي المعقد هو الملف الأول والشغل الشاغل للناخب التركي الذي ظل حائراً حتى اللحظات الأخيرة من الاقتراع
ورغم تلك الخطوات وتحصين الاقتصاد من مخاطر التعثر والإفلاس والوقوع في مصيدة صندوق النقد الدولي، كانت الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا حاضرة وبقوة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت يوم الأحد 14 مايو.
وكان المشهد الاقتصادي المعقد هو الملف الأول والشغل الشاغل للناخب التركي الذي ظل حائراً حتى اللحظات الأخيرة من الاقتراع، بين الانحياز لإنجازات اقتصادية كبيرة حققها أردوغان وحزبه على مدى عقدين، وواقع مؤلم يضغط بشدة على المواطن بسبب الغلاء الفاحش وتآكل العملة ومعها القدرة الشرائية.