الاقتصاد المصري... صرخة ما قبل الندم

06 أكتوبر 2023
قفزات الأسعار تضغط بشدة على الفقراء في مصر (فرانس برس)
+ الخط -

ضع خريطة الاقتصاد المصري أمامك، حاول أن تتأمل فيها جيداً، انظر للمؤشرات والأرقام، وإن كنت واحداً ممن لا يقرأون المؤشرات جيداً، ولا يجيدون تفحص الأرقام، راجع الواقع الذي يعيشه المواطن وغلاء المعيشة والأعباء المالية التي لا ترحم والقفزات المتواصلة في الأسعار، والنتيجة الحتمية التي ستتوصل إليها بلا تعب أنك ستصاب بالرعب على المستقبل، والقلق الشديد والخوف على الواقع.

ديون خارجية

تعالَ نتأمل الخريطة معاً؛ ديون خارجية تتجاوز 165 مليار دولار مستحقة على الدولة، ومطلوب سداد نحو 30 مليار دولار منها في عام واحد هو العام المقبل، ومطلوب أيضاً تخصيص 900 مليار جنيه من إيرادات الدولة لسداد بند واحد فقط هو أعباء الديون الخارجية للعام 2024.

ولا تنزعج إذا ما عرفت أن مصر مطالبة بسداد نحو 83.7 مليار دولار بين عامي 2024 و2027 طبقا لأرقام البنك المركزي، وأن هذا الرقم يتجاوز التقديرات الصادرة في يونيو الماضي بنحو 6.4 مليارات دولار.

كما أنّ أزمة الديون تهدد بحذف مصر من مؤشر "جي بي مورغان" للسندات الحكومية بالأسواق الناشئة والذي يتيح للحكومة الوصول إلى أكبر عدد من المستثمرين الأجانب في أدوات الدين، بل تعتمد الحكومة بشكل كبير على هذه السوق الضخمة، لتوفير القروض والتمويلات اللازمة لاحتياجاتها الأساسية.

الدين العام

ولن أغرق القارئ في تفاصيل، فيكفي القول إنّ معدل الدين العام وصل إلى نحو 96% من الناتج المحلي الإجمالي، وإنّه مطلوب من الحكومة سداد ما يزيد عن 1.1 تريليون جنيه لأعباء الدين العام من أقساط وفوائد خلال العام المالي الجاري.

ولا أعرف كم يتبقى من إيرادات الدولة في حالة خصم هذا المبلغ الضخم منها لتغطية وتمويل أعباء الأجور والرواتب والدعم والانفاق على التعليم والصحة والخدمات العامة والاستثمارات في البنية التحتية والأنشطة الأخرى.

ولا تنسَ أنّ مصر باتت ثاني أكبر مدين لصندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين، وأنّ المفاوضات لا تزال متعثرة مع صندوق النقد الدولي، وأنّه رغم الوعود الحكومية بضبط الاقتراض الخارجي، فإنّ هناك اندفاعاً شديداً نحو الاقتراض من كلّ صوب وحدب.

وأنّ مهمة الحكومة الأساسية الآن باتت تركز على نشاطين رئيسيين، البحث عن قروض جديدة أو بيع أصول الدولة، وأنه لا أمل في اغلاق تلك الدائرة الجهنمية التي وقعنا بها خلال السنوات العشر الماضية، فالحكومة تقترض لسداد قروض قديمة، ولو توقفت عن الاقتراض لما وجدت سيولة دولارية للسداد.

الاحتياطي الأجنبي

بالنسبة لمؤشر الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي فإنّ الصورة تبدو أكثر رعباً، فالزيادات التي يعلَن عنها من وقت لآخر، تعد فقط رسالة لصندوق النقد الذي من بين شروطه إعادة بناء الاحتياطي، ورسالة أخرى بقدرة البلاد على سداد أعباء الدين الخارجي.

ونظرة لرقم الاحتياطي النقدي البالغ 34.9 مليار دولار بنهاية سبتمبر الماضي نجد أن نحو 30.5 مليار دولار من مكونات هذا الرقم مملوك لدول الخليج، السعودية وقطر والكويت والإمارات، في صورة ودائع أو قروض مساندة، وأن المبلغ الباقي يتوزع ما بين الذهب والسندات الأميركية.

عجز ضخم في أصول البنوك

وهناك عجز في أصول البنوك من النقد الأجنبي يتجاوز 26 مليار دولار بنهاية شهر سبتمبر الماضي، وهذا العجز يعادل ما يزيد عن نصف إجمالي الودائع الدولارية لدى القطاع المصرفي.

وقد يتواصل العجز مع شح النقد الأجنبي في الأسواق، وتراجع الإيرادات الدولارية المتدفقة على البلاد، وانتعاش السوق السوداء للعملة، ووجود فروقات كبيرة في سعر الدولار بين البنوك وتجار العملة، وإجبار الحكومة البنوك على معالجة الأزمات القائمة ومنها أزمة تكدس السلع في الموانئ والمطارات، والمشاركة في تغطية الأذون والسندات الدولارية التي تطرحها الحكومة أو البنك المركزي من وقت لآخر وتخصص حصيلتها لسداد أعباء ديون، أو تغذية الاحتياطي الأجنبي.

خفض التصنيف الائتماني

ومن المؤشرات المزعجة قيام وكالات التصنيف والبنوك العالمية الكبرى بخفض تصنيف مصر الائتماني ومعدل النمو الاقتصادي المتوقع من آن لأخر.

أحدث مثال على ذلك التقارير الصادرة عن بنوك مورغان ستانلي الأميركي وأنتيسا سان باولو الإيطالي وسوسيتيه جنرال الفرنشي، الذي جاءت تخفيضاتهم للتصنيف أو العملة المحلية وسط مخاوف متزايدة بشأن احتياجات مصر التمويلية، والتي تقدر بنحو 24 مليار دولار حتى يونيو/حزيران 2024.

وقبلها وضعت مؤسسة موديز التصنيف الائتماني السيادي لمصر بالعملتين المحلية والأجنبية والنظرة المستقبلية تحت "المراجعة السلبية" لمدة ثلاثة أشهر إضافية. مع ذلك تبدو الحكومة متفائلة وتتحدث عن إنجازات لبرنامجها الاقتصادي.

غلاء غير مسبوق للأسعار

وعلى أرض الواقع أيضاً، نجد أنّ الأسواق تعيش غلاء غير مسبوق للأسعار، وتضخماً هو الأعلى من نوعه في نحو 60 عاماً، وقفزات متواصلة في الأسعار السلع لا ترحم الغني والفقير.

قفزات دفعت الأسر المصرية إلى تطبيق سياسة تقشف حادة ومقاطعة مئات السلع بما فيها الضرورية والحياتية، هذه المقاطعة ستكون لها آثار كارثية على قطاع الإنتاج والصناعة والخدمات في مصر حيث تساهم في قلة الطلب على المنتج المصري، وهو ما قد يدفع المصانع نحو تقليص الإنتاج والضرائب المدفوعة وطرد العمالة، أو على الأقل خفض الرواتب وتقليل الحوافز.

وللأسف، فإنّ الحديث عن كبح التضخم في المستقبل القريب هو نوع من أحلام اليقظة، فطالما أنّ هناك زيادات متواصلة في سعر الدولار، وعدم رفع سعر الفائدة بالشكل الكافي، وقيودا حكومية على الواردات، واعتماد الأسواق المحلية على الواردات الخارجية بخاصة من السلع الغذائية مثل القمح والسكر والزيوت وغيرها، فإنّ الأسعار ستواصل قفزاتها.

وهنا لن يجدي أي ارتفاع في الأجور والرواتب نفعاً، فما تعطيه الحكومة باليمين من زيادات هزيلة في الرواتب تحصل على أضعافه باليسار في صورة زيادات في أسعار السلع والخدمات ومنها السلع التموينية والبنزين والسولار وفواتير المياه والكهرباء والرسوم الحكومية والضرائب.

كما أنّ الحكومة نفسها تلعب دوراً مهما في تغذية نيران التضخم بحرصها على تنفيذ مطالب صندوق النقد وفي مقدمتها خفض الدعم وزيادة أسعار المشتقات البترولية والمواصلات والخدمات العامة وغيرها.

تعويم متواصل للجنيه

الحديث عن التضخم يقودنا إلى قضية أخطر وهي التعويم المتواصل للعملة المحلية الذي يجعلها تفقد الجزء الأكبر من قيمتها السوقية مقابل الدولار، فعقب الانتخابات الرئاسية مباشرة من المتوقع أن تبدأ مصر جولة جديدة من خفض قيمة الجنيه تنفيذاً لتعليمات صندوق النقد الدولي وحتى تحصل على الشريحتين الأولى والثانية من قرض بقيمة 3 مليار دولار.

ومع الخفض المتوصل في قيمة العملة فإنّ ثقة المواطن، سواء كان مدخراً أو مستهلكاً أو حتى مستثمرا ستتراجع في عملته الوطنية، ويزيد الإقبال على أدوات الاستثمار الاخرى وفي مقدمتها الدولار والذهب والعقارات والأصول، وهو ما سيغذي ظاهرة "الدولرة" الخطيرة، ويضع الجنيه في مهب الرياح.

تراجع الإيرادات الدولارية

على مستوى مؤشرات الإيرادات الدولارية للدولة، لا تبدو مريحة على الإطلاق، فالحكومة التي تتحدث عن قفزات متوقعة في الصادرات فوجئت بتراجع الصادرات السلعية غير النفطية، أهم وأول مصدر للنقد الأجنبي، في النصف الأول من العام الجاري بنسبة 17% إلى نحو 16 مليار دولار، مقابل 19.3 مليار دولار قبل عام.

والحكومة التي تتحدث ليل نهار عن خطط لزيادة تحويلات المصريين العاملين في الخارج فوجئت بتراجع حاد في ثاني أهم مورد للنقد الأجنبي، إذ تراجعت تلك التحويلات بنحو 26% خلال 9 أشهر، في الفترة بين يوليو/تموز 2022 ومارس/آذار 2023، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من شح العملة الصعبة.

وزادت نسبة التراجع خلال عام، فحسب أحدث أرقام صادرة هذا الأسبوع عن البنك المركزي المصري، فقد تراجعت تحويلات المغتربين خلال العام المالي الماضي بنسبة 30.8%، لتصل إلى 22.1 مليار دولار، مقابل 31.9 مليار دولار في العام المالي السابق.

استثمار أجنبي متواضع

ولن أتحدث بإسهاب عن مؤشرات خطرة أخرى، منها العجز في الميزان التجاري المصري وهو الفارق بين الصادرات والوارادات، والذي لا يزال مرتفعا رغم خنق الواردات ومنع استيراد آلاف السلع وتلكؤ البنوك في فتح الاعتمادات للمستوردين.

ولا يزال رقم الاستثمار الأجنبي المباشر متواضعاً مقارنة بامكانات الاقتصاد المصري الضخمة والرفص الكبيرة. ولا يزال القطاع الخاص يعاني من ضغوط شديدة وحالة انكماش متواصلة بسبب حالة الركود وتراجع قيمة العملة وزيادة كلفة الإنتاج.

توسع في بيع أصول الدولة

وعلى أرض الواقع أيضاً تواصل الحكومة سياسة التوسع في بيع أصول الدولة من بنوك وشركات وأراضٍ، صحيح أنّ تلك السياسة توفر سيولة دولارية طارئة للحكومة، لكنها في المقابل لها تأثيرات مستقبلية خطيرة على خزانة الدولة وإيراداتها العامة، فأرباح وعوائد تلك الأصول ستصب بعد ذلك في خزانة المشترين الذين سيحولون هذه الأموال إلى الخارج، وهو ما يضغط على النقد الأجنبي لدى البنوك وسوق الصرف.

في ظل هذه الصورة الرمادية، هل هناك أمل في المستقبل؟ وهل يمكن إصلاح هذا المسار الكارثي في ظل سلطة لا تؤمن أصلا بدراسات الجدوى، ولا تزال تعتبر أن تنشيط الاقتصاد يأتي عبر بند واحد هو ضخ تريلونات الجنيهات في نشاط واحد هو البنية التحتية.

وأن إقامة مدن ومشروعات وقطارات للأثرياء أهم مرات من إقامة مستشفيات ومدارس ومصانع وشركات متوسطة وصغيرة، وأن شراء طائرات وإقامة قصور رئاسية وتشييد سجون أهم كثيراً من دعم رغيف الخبز وغاز الطهي ومشتقات البترول والكهرباء والمياه، وتوفير الدقيق والسكر والزيوت بسعر مناسب، وأنّ نزح ما تبقى في جيب المواطن أهم كثيراً من زيادة الإنتاج والصادرات وتنشيط السياحة والاستثمار المباشر؟

المساهمون