نفَّذ المئات من العاملين في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي إضراباً تحذيرياً في وسط تل أبيب لمدة ساعة واحدة يوم الثلاثاء 24 يناير/ كانون الثاني 2023 مردِّدين شعار: "بدون ديمقراطية، لا توجد تكنولوجيا عالية".
كما احتشد أكثر من 100 ألف متظاهر في تل أبيب ليلة السبت 21 يناير/ كانون الثاني، وتظاهر آلاف آخرون في بلدات في جميع أنحاء البلاد احتجاجاً على خطط الحكومة الجديدة المثيرة للجدل لإصلاح النظام القضائي؛ فقد أثار الإصلاح المُخطَّط له انتقادات شديدة ونال استهجان المسؤولين والمهنيين في القطاع الخاص ومنظمات الأعمال الإسرائيلية، نظراً لاستهدافه المحكمة العليا التي تمثّل أهمّ الكوابح لتغوّل الأغلبية داخل الكنيست وتعمُّده تجريدها من صلاحية إبطال القوانين التي يقرِّها الكنيست.
كما استقال المسؤول الكبير في بنك إسرائيل المركزي "موشيه حزان" يوم 23 يناير/ كانون الثاني 2023 من منصبه للمشاركة في الاحتجاجات ضدّ خطط الإصلاح القضائي الجديدة، وكان حزان عضواً في اللجنة النقدية في بنك إسرائيل المُكوَّنة من ستة أشخاص والمُكلَّفة بتحديد سعر الفائدة.
وفقاً لتصريحاته، يعتقد حزان أنّه يمكن أن يكون أكثر فائدة كناشط عام من كونه خبيراً في بنك مركزي لدولة تتدحرج بشكل سلس في طريقها من دولة القانون إلى جمهورية الموز، وهو مصطلح ساخر يطلق للانتقاص من الدولة غير المستقرّة سياسياً والمفتقرة إلى الثقل السياسي والاقتصادي بين دول العالم.
يعرِّض هذا الإصلاح الجديد الديمقراطية في إسرائيل للخطر ويلحق ضرراً جسيماً بصناعة التكنولوجيا المحلية المزدهرة ويشكِّل تهديداً لا يستهان به للاقتصاد الإسرائيلي، ويمكن أن يدمِّر ثقة المستثمرين والعملاء والعمال الأجانب ويدفعهم للانسحاب من التعاون مع الأطراف الإسرائيلية، حيث تنفر الشركات الأجنبية من البيئة الخاضعة لقوانين ونظم مجحفة أشبه ما تكون بأنظمة الغاب.
سيدفع إضعاف النظام القضائي المستثمرين الأجانب إلى تقليص تمويلهم للشركات الإسرائيلية وسيضع الشركات الأجنبية أمام حتمية المغادرة والتوجُّه إلى بلدان أخرى أكثر ديمقراطية.
وهذا أمر مقلق خاصة إذا ما علمنا أنّ حوالي 90 بالمائة من الأموال المستثمرة في التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلية تأتي من الخارج وهي معرَّضة للخطر الآن بسبب هذه الإصلاحات القضائية التي تضرب الديمقراطية عرض الحائط، وعندما تتبخَّر هذه الأموال سيتلقَّى قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي ضربة قاتلة تسقطه من عرشه الذي تربَّع عليه لسنوات.
ليس من المستبعد أيضاً أن يؤثِّر الإصلاح الشامل للنظام القضائي سلباً على التصنيف الائتماني لإسرائيل، كما حدث في تركيا والمجر وبولندا، فقد أدَّت المراجعة القضائية وتدهور الاستقلال القانوني والقضائي إلى إضعاف الضوابط والتوازنات وزيادة سلطة الحكومات بشكل كبير في تلك الدول التي عانت نتيجة لذلك من تراجع تدفُّقات الاستثمارات الأجنبية وانخفاض تصنيفاتها الائتمانية السيادية.
وبالفعل حذَّرت وكالة التصنيف الائتماني (S&P) Standard & Poor’s في وقت سابق من شهر يناير/ كانون الثاني 2023 أنّ خطط التحوُّل القضائي يمكن أن تؤثِّر سلباً على تصنيف البلاد الذي لا يعدّ مجرَّد ميدالية شرفية فحسب، بل يمكِّن إسرائيل من جذب استثمارات أجنبية أكبر ودفع سعر فائدة أقلّ مقابل الاقتراض من الخارج.
تحرص المقترحات الجديدة على الحدّ من قدرة المحكمة العليا على إلغاء القوانين والقرارات الحكومية، وتمكِّن الكنيست من إعادة تشريع القوانين الملغاة بأغلبية ضئيلة تبلغ 61 عضواً من أعضاء الكنيست تحت "بند الاستثناء" "Override Clause"، وتمنح الحكومة سيطرة كاملة على اختيار القضاة، وتسمح للوزراء بتعيين مستشاريهم القانونيين، بدلاً من الحصول على مستشارين يعملون تحت إشراف وزارة العدل؛ وتشكِّل هذه المقترحات المرحلة الأولى فقط من الإصلاح المُخطَّط له، وسيتمّ تفعيل المزيد من التغييرات في مرحلة لاحقة.
تمضي إسرائيل قُدماً في طريقها لتمزيق نفسها وسط هذا التغيير الجذري الذي تخطِّط من خلاله الحكومة لإحكام قبضتها على النظام القضائي بدون حسن نية وعبر خطوات وإجراءات أحادية وقوية وعدوانية لا تلتفت للمعارضة ولا تلقي بالاً للحوار المتبادل والنقاش البنّاء الواسع حول العواقب الأمنية والاقتصادية والاجتماعية لمثل هذه التغييرات الضخمة التي ستعيد النظام القضائي الإسرائيلي سنوات إلى الوراء.
فعلى الرغم من الانتقادات العلنية الشديدة لتلك الخطط، ذكرت وسائل إعلامية عبرية أنّ وزير العدل الإسرائيلي الجديد "ياريف ليفين" مصمِّم على المضي قدماً في إصلاحاته وليس لديه نية للتنازل، بل على العكس سيبدي استعداده لحوار زائف من أجل تهدئة الأجواء وكسب المزيد من الوقت لإعداد التشريع لتنفيذ الإصلاحات.
ليس من قبيل الصدفة أن تشهد إسرائيل مثل هذه التطوُّرات بعد عودة نتنياهو إلى الواجهة من جديد، حيث يسعى "ياريف ليفين" تحت إملاءات نتنياهو إلى تغليب سلطة النواب على سلطة القضاة كوسيلة لإنقاذ نتنياهو من أيّ محاكمة قادمة في ملفات الفساد وخيانة الأمانة التي تنتظره في أروقة المحاكم. فعلى سبيل المثال، إذا صوّت نواب الكنيست على إلغاء محاكمة نتنياهو، وقامت المحكمة العليا بعد ذلك بإلغاء ذلك التصويت، سيتمّ تعليق قرار المحكمة بفضل "بند الاستثناء" الذي صُمِّم خصيصاً لتجريد المحكمة العليا من صلاحية إبطال القوانين التي يصدرها الكنيست خدمة لتوجُّهات ومصالح الأحزاب والاعتبارات الشخصية لقادتها.
بعد نجاحه في تشكيل الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ البلاد، لن يخرج نتنياهو من ورطته القضائية كالشعرة من العجين فحسب، بل سيعرِّض النظام القضائي الإسرائيلي بأسره للخطر وسيفتح الباب لمتاعب اقتصادية واستثمارية تستعصي على الحصر.
سيترك الإصلاح الشامل تشوُّهات عميقة على الطابع الديمقراطي لإسرائيل من خلال زعزعة نظام الضوابط والتوازنات على السلطة التنفيذية وتسييس القضاء ومنح سلطة شبه مطلقة للحكومة، ويستحيل في هذه الحالة أن يستمرّ أداء الاقتصاد الإسرائيلي على ما هو عليه الآن؛ حيث يتطلَّب النمو الاقتصادي الاستقرار والوضوح اللذين يسمحان بإعداد تخطيط طويل المدى، بينما يسهل تدمير الصورة الاقتصادية التي تصعب استعادتها في ظلّ ارتفاع درجات عدم اليقين والخرق الصارخ لمبدأ الفصل بين السلطات.
خلاصة القول، يرفع نتنياهو شعار "أنا ومن بعدي الطوفان" غير مكترثٍ بالعواقب الاقتصادية لتآكل الديمقراطية في إسرائيل، فهل سيستمرّ الاستثمار الأجنبي بالتدفُّق إليها في حال تطبيق تلك الإصلاحات القضائية الخطيرة ويثبت للعالم أنّ إسرائيل حالة استثنائية؟