من المؤكد أن الاتفاق السعودي الإيراني على تطبيع العلاقات بين البلدين جاء مفاجئا للجميع، ليس فقط لأنه يمثل تحولا جذريا في العلاقات بين البلدين، ولكن أيضا بتقاطعه مع العديد من المشكلات العربية في سورية واليمن والعراق والبحرين، كما أنه فتح الباب الكبير أمام التنين الصيني ليؤكد على نفوذه المتصاعد ليس في منطقة الخليج فحسب، بل في العديد من البؤر الاستراتيجية حول العالم.
لم يكتف الاتفاق الذي جرى الإعلان عنه من بكين في 10 مارس/آذار الجاري، في بيان مشترك، عن إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وإعادة فتح السفارتين المغلقتين منذ عام 2016، في غضون شهرين فقط، بل امتد أيضا للاتفاق مبدئيا حول الجوانب الاقتصادية حيث نص على تفعيل الاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم، بالإضافة إلى الثقافة والرياضة والشباب، الموقعة في عام 1998.
يشير هذا الإعلان المبدئي للاتفاق إلى أنه لن يقتصر فقط على مجرد إعادة تطبيع العلاقات دبلوماسيا بين البلدين، وإنما سيسعى نحو فتح المجال واسعا لشراكة أوسع في مجالات متعددة، دبلوماسية وأمنية واقتصادية، وهو الأمر الذي يدفع نحو بحث الدوافع الاقتصادية لكلا البلدين من وراء الاتفاق، خاصة من الجانب الإيراني الذي يعاني العديد من الصعوبات الاقتصادية.
بداية فإن كلا البلدين متورط في الإنفاق العسكري على العديد من الملفات، وهو الأمر الذي كبد اقتصاديهما خسائر فادحة عرقلت نسبيا عمليات التنمية الطموحة في المملكة، ولكنها كانت ذات آثار مؤلمة على مستوى معيشة المواطن الإيراني، لا سيما في ظل الاقتصاد المنهك جراء العقوبات الأميركية والغربية التي شلّت عجلة الصناعة والتجارة والدورة الاقتصادية، وألقت بظلالها الكثيفة علي مستويات الفقر والبطالة والإنتاج علاوة على انهيار سعر الصرف، الأمر الذي دفع الإيرانيين إلى الخروج في مظاهرات عارمة استمرت لعدة أشهر سابقة.
انهيار الريال واشتعال التضخم
تبرز الدوافع الاقتصادية الإيرانية كحافز هام على المضي قدما في تنفيذ الاتفاقية وتطويرها خلال الفترة المقبلة خاصة في ظل الانهيار التاريخي للريال الإيراني أمام العملات الأجنبية، والذي تسبب في إطاحة محافظ البنك المركزي بنهاية العام الماضي كنتيجة للانهيار الحاد في سعر صرف العملة المحلية على أثر من العقوبات الاقتصادية المشددة منذ عام 2018.
وعلى الرغم من ذلك فلم يفلح المحافظ الجديد في الحفاظ على سعر الصرف حيث عاود الريال الهبوط إلى مستويات قياسية تاريخية حيث تجاوز سعر الدولار الواحد 452 ألف ريال بالسوق غير الرسمية، وذلك بعد استقرار نسبي لم يدم طويلا ولم يقدر على الصمود أمام ورود أنباء عن عقوبات أوروبية محتملة وأخرى أميركية على بنوك عراقية بهدف التضييق على الاقتصاد الإيراني المحاصر.
وبالطبع تزامن الانخفاض المستمر للريال مع اشتعال فتيل التضخم، ووفقا لتقرير مركز الإحصاء الإيراني، بلغ معدل التضخم خلال شهر "بهمن" الإيراني (ينتهي 21 فبراير) 52.7%، بزيادة 1.2% مقارنة بالشهر السابق.
كما بلغ معدل التضخم السنوي 47.7%، حيث ارتفع بنسبة 1.4% مقارنة بالعام الماضي، علما بأن معدلات التضخم في إيران استمرت فوق مستوى 40% في المتوسط خلال عدة أعوام سابقة، وهو الأمر الذي أدى إلى تآكل القدرات الشرائية للمواطنين وزيادة معدلات الفقر والبطالة.
زيادة الفقر وانكماش الاقتصاد
من الطبيعي أن تؤدي معدلات التضخم المتصاعدة باستمرار إلى ارتفاع معدلات الفقر الإيرانية، وقد أشار تقرير لوزارة العمل والرفاه الاجتماعي في إيران نشر في يناير/كانون الثاني 2023، إلى أن خط الفقر ارتفع بنسبة 50% في عام 2021 مقارنة مع عام 2020.
ويظهر ذلك انخفاض القدرة الشرائية لدى المواطن، كما كشف التقرير عن معاناة 30% من الإيرانيين من الفقر خلال عام 2021، مشيرا إلى أن 26 مليونا باتوا تحت خط الفقر، أي ثلث عدد سكان إيران.
ومن المؤكد أن هذه النسبة تزايدت كثيرا خلال العام الماضي خاصة بعد تخطي معدل التضخم حاجز 50%، وهو الأمر الذي يمكن معه استنتاج أن نصف الإيرانيين تقريبا باتوا تحت خط الفقر.
وفي هذا الإطار حذر مختصون من اضمحلال الطبقة المتوسطة في إيران، ليس فقط بسبب تصاعد التضخم، ولكن أيضا كنتيجة للانكماش المستمر للاقتصاد الإيراني.
ومؤخرا أعلن معهد الأبحاث الاقتصادية التابع لغرفة إيران للتجارة والصناعة، تراجع مؤشر "مديري المشتريات" في إيران من 49.14 نقطة في آذار الإيراني (21 نوفمبر/تشرين الثاني حتى 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي) إلى 41.89 نقطة في الشهر التالي.
وبذلك فإن المؤشر استمر دون مستوى 50 نقطة التي تعد الفاصل بين النمو والانكماش، وبلغ أدنى مستوى له منذ 40 شهرا، مما يؤكد وجود انكماش في القطاع الخاص الإيراني غير المنتج للنفط.
ومن المثير للانتباه أنه خلافا للتوقعات فقد انعكس تراجع قيمة الريال سلبا على الصادرات خلال الفترة الماضية، وذلك بسبب التضخم المتصاعد في البلاد الأمر الذي منع المنتجين من بيع بضائعهم خشية ارتفاع سعر مستلزمات الإنتاج، كما أن اتجاه الحكومة لقطع الغاز الطبيعي عن المصانع وتوفيره للتدفئة فقط ساهم في هذا الانكماش الإنتاجي.
نافذة بعيدة عن العقوبات الأوروأميركية
تشير البيانات السابقة الإشارة إليها إلى مشاكل اقتصادية عديدة تعاني منها إيران، وأنها أثرت سلبيا على مستوى معيشة نسبة كبرى من الشعب، وأن الارتفاع الأخير في أسعار النفط لم يحسن الأوضاع بصورة كلية، وأن الاتفاق مع السعودية ربما يكون نافذة شديدة الأهمية للتنفس الاقتصادي بعيدا عن العقوبات الأوروأميركية،.
كما أن الاستثمارات السعودية قد تشكل داعما هاما لعودة الإنتاج نحو مستوياته الطبيعية على الأقل في السنوات السابقة.
وقد أعلن وزير المالية السعودي محمد الجدعان أنّ "استثمارات بلاده في إيران قد تبدأ "سريعا"، وتابع "لا يوجد سبب يمنع ذلك. إيران جارتنا وكانت وستظل كذلك لمئات السنين.
لذلك لا أرى أي مشكلة من شأنها أن تمنع تطبيع العلاقة عبر الاستثمارات، طالما نلتزم بالاتفاق، ونحترم السيادة، ولا نتدخل في شؤون بعضنا البعض".
لا شك أن التقارب بين أي دولتين في العالم الإسلامي أمر مرحب به للغاية، علي الأخص إذا كانتا من كبار الدول التي تمتلك الكثير من المقومات الاقتصادية والسكانية والعسكرية التي تضيف لإجمالي القدرات الاستراتيجية للعالم الإسلامي.
ومن المؤكد أن الاتفاق السعودي الإيراني سيعود بالنفع على الكثير من الدول العربية المأزومة حاليا، وعلى الأخص بالنفع لإيران التي تعاني صعوبات اقتصادية جمة.
وستلعب الاستثمارات السعودية دورا كبيرا في استقرار الاقتصاد الإيراني وانفتاح صادراته ليس فقط على المملكة بل على كل الدول العربية والإسلامية.