استمع إلى الملخص
- تركز المملكة المتحدة على مكافحة الفساد محلياً ودولياً، مع تخصيص 36 مليون جنيه استرليني للوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة، وتعزيز التحالفات ضد الأنظمة الاستبدادية.
- تسعى المملكة المتحدة لمواجهة الفساد والجريمة المنظمة عبر توسيع تمويل وحدة الفساد الدولي وفرض عقوبات على تجارة الذهب غير المشروعة، لتعزيز الأمن القومي والنمو الاقتصادي.
بينما يشهد الشرق الأوسط تغييرات جوهرية بعد سقوط الرئيس السوري بشار الأسد المفاجئ، تعكف المملكة المتحدة على إعادة صياغة استراتيجياتها لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية المترتبة على تلك التحولات، من مكافحة التمويل غير المشروع إلى تعزيز العلاقات التجارية والدفاعية مع دول الخليج، حيث تسعى لندن لتأمين مصالحها الاقتصادية الداخلية وتعزيز استقرار شركائها الدوليين.
وخلال جلسة استثنائية عقدها مجلس العموم البريطاني أمس الاثنين، تناول وزير خارجية الظل ديفيد لامي انعكاسات تلك الأحداث على استقرار الشرق الأوسط وتأثيراتها الممتدة على الاقتصاد البريطاني، حيث أبرز لامي الأبعاد الاقتصادية للتمويل غير المشروع الذي يُعد أداة مركزية للأنظمة الاستبدادية، مشيراً إلى دوره في رفع معدلات الجريمة وأيضاً أسعار المنازل في المملكة المتحدة. وللتصدي لهذه التحديات، أعلنت الحكومة عن تخصيص 36 مليون جنيه استرليني للوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة (NCA) لتكثيف الجهود في مكافحة الفساد، الذي اعتبرته جزءاً من نهج عالمي للديكتاتوريين والمجرمين.
وتعد هذه التحرّكات جزءاً من استراتيجية أوسع لحزب العمال تهدف إلى محاربة الفساد على المستويين المحلي والدولي، مع تعزيز الجهود لمحاربة التدفقات المالية غير المشروعة التي تشكل تحدياً أمنياً واقتصادياً عالمياً. ولذلك، دعا لامي إلى التقييم الحذر لعواقب الإطاحة ببشار الأسد ونظامه، مشيراً إلى أن هذه المرحلة الحساسة تمثل فرصة لتوحيد التحالفات الدولية في مواجهة الأنظمة الاستبدادية.
وعلى صعيد متصل، يتكامل هذا النهج مع رؤية زعيم حزب العمال، السير كير ستارمر، الذي أكد خلال زيارته إلى الرياض، أهمية تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع دول الخليج. وفي خطوة تعكس التزام المملكة المتحدة بدعم الاستقرار الإقليمي، أعلن ستارمر عن خطط لتوسيع التعاون الدفاعي مع المملكة العربية السعودية، وقال: "تحقيق الأمن لا يقتصر على الداخل، بل يتطلب دوراً فاعلاً على الساحة الدولية لدعم الاستقرار وحماية شركائنا من التهديدات الحالية والمستقبلية".
الرؤية البريطانية الثابتة تجاه الشرق الأوسط
في السياق ذاته، يوضح الدكتور جوزيف ديفاني، المحاضر في قسم دراسات الحرب في جامعة كينغز كوليدج لندن، في حديثه إلى "العربي الجديد"، أن سياسة المملكة المتحدة الإقليمية لن تشهد على المدى البعيد، تغيراً كبيراً بعد سقوط الأسد. وعزا ذلك إلى ارتباط هذه السياسة برؤية طويلة الأمد ومتجذرة للمصالح الوطنية البريطانية وأولوياتها في السياسة الخارجية.
ويؤكد ديفاني أن الأمن الإقليمي وتعزيزه يظلان محورين أساسيين لهذه السياسة، التي تعتمد بشكل كبير على العلاقات القوية بين المملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.
أمّا في ما يتعلّق بالإعلان الأخير عن تمويل مستمر بقيمة 36 مليون جنيه إسترليني، من مكتب الكومنولث والتنمية الخارجية (FCDO)، على مدى خمس سنوات لوحدة الفساد الدولي التابعة للوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة، فيقول ديفاني، إنّه يعدّ مساهمة صغيرة نسبيًا من حيث الإنفاق العام، يوازي سبعة ملايين جنيه إسترليني فقط لكل عام. وانطلاقًا من ميزانية وزارة الخارجية والتعاون الدولي، لن يكون لهذا الالتزام تأثير سلبي مباشر على الإنفاق على الأولويات المحلية، مثل الإسكان. ولكنه أشار إلى أنه قد يكون له على المدى الطويل تأثير إيجابي غير مباشر على أولويات المملكة المتحدة الأخرى، إذا كان التنفيذ الناجح للعمليات ضد التمويل الدولي غير المشروع يساعد بشكل فعال في الحد من عمليات الإرهابيين أو المجرمين أو الجهات الحكومية المعادية.
ويضيف ديفاني: "يبدو أن حكومة حزب العمال الجديدة لم تتسلم السلطة ومعها خطة واضحة لتحسين الاستراتيجيات الأمنية الحالية، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي. ونتيجة لذلك، تمر المملكة المتحدة حالياً بمرحلة انتقالية، تعمل خلالها الحكومة على إجراء مجموعة متنوعة من مراجعات السياسات. ومع ذلك، فإن مدى فعالية هذه المراجعات لن يكون ممكناً تقييمه إلا في السنوات القادمة. وعلى سبيل المثال، يمكن اعتبار تعيين البارونة هودج مؤخراً قائدة لمكافحة الفساد في المملكة المتحدة، خطوة رمزية أكثر منها عملية، إذ يبدو أنها تمّت لأغراض إعلانية بحتة. وعلى الرغم من أن هذا التعيين قد لا يضرّ بشكل مباشر بفعالية سياسة المملكة المتحدة، إلا أنه يثير تساؤلات حول مدى قدرتها على تحقيق تحسينات ملموسة بمرور الوقت".
وفي معرض حديثه عن قدرة المملكة المتحدة على تعزيز مرونتها الاقتصادية في ظل الديناميكيات المتغيرة في الشرق الأوسط، أوضح ديفاني أنّ المملكة المتحدة لطالما أولت أهمية كبيرة لتعزيز شراكاتها الدفاعية والأمنية، بالإضافة إلى شراكاتها التجارية والاستثمارية مع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي. وأكد أن هذه العلاقات تُعد ذات منفعة استراتيجية متبادلة، لافتاً إلى أنّه لا يوجد ما يدل على أن حكومة حزب العمال الجديدة تتبنى رؤية مختلفة جذرياً عن سابقتها المحافظة في هذا الشأن. ورجح عمل حكومة كير ستارمر على الحفاظ على هذه العلاقات وتطويرها، مدفوعة بأولويات اقتصادية محلية وإيمان بأهميتها للأمن الإقليمي، فضلاً عن إدراك الدور المحوري الذي تلعبه السعودية ودول الخليج في هذا السياق مع طيف واسع من الشركاء الدوليين.
التحديات الاقتصادية في سورية بعد الأسد
من جهته، يصف الدكتور ديفيد ليش، الخبير في دراسات الشرق الأوسط وسورية، الوضع الداخلي السوري بأنه "فوضى عارمة". ويؤكد أن الاقتصاد السوري بحاجة إلى مئات المليارات لإعادة الإعمار، مع وجود 90% من السكان تحت خط الفقر. كما يوضح أن سورية أصبحت ساحة نفوذ لأمراء الحرب ودولة تعتمد على تجارة المخدرات، مما يجعل فك تشابك هذه الشبكات أمرًا شديد الصعوبة.
ويتساءل ليش: "من سيرغب في الاستثمار في سورية، قبل أن يرى الاتجاه الذي سيأخذه التحالف الجديد بقيادة هيئة تحرير الشام في البلاد؟". ويعكس هذا التساؤل قلقاً من أنّ عدم الاستقرار طويل الأمدّ قد يؤدي إلى تحوّل سورية إلى ملاذ للإرهاب وتجارة المخدرات، مما يهدّد أمن الدول المجاورة ويعقّد جهود إعادة الإعمار. ومع ذلك، يشير ليش إلى أن بصيص الأمل الوحيد في هذه الأزمة قد يتمثل في إمكانية رفع العقوبات الدولية المدمرة عن سورية في المستقبل القريب، خاصة بعد رحيل الأسد.
وأكد ليش أن مثل هذه الخطوة قد تفتح الباب أمام تدفق مساعدات إعادة الإعمار والاستثمارات، لا سيما من دول الخليج العربية وغيرها من الدول الساعية للحد من النفوذ الروسي والإيراني في سورية، إن لم يكن القضاء عليه تماماً. واعتبر أنّ هذا التحرك سيكون ضرورياً لمنع سورية من الانزلاق إلى دولة فاشلة على حدود إسرائيل والعديد من حلفاء الغربيين الآخرين.
التحديات المعقدة وموقف المملكة المتحدة
في الوقت نفسه، يحذّر البروفيسور بول روجرز، الخبير في دراسات السلام والعلاقات الدولية بجامعة برادفورد، من تقديم إجابات قاطعة حول مستقبل المنطقة، مشيراً إلى الطبيعة المعقدة وغير المؤكدة للتدخلات الأميركية والتركية والإسرائيلية. وقال إنه "رغم هذه التعقيدات، تسعى حكومة المملكة المتحدة لاتخاذ خطوات حازمة لمواجهة التحديات العالمية للفساد والجريمة المنظمة، ولتأكيد التزامها بمكافحة الفساد داخليًا وخارجيًا، بما في ذلك تعيين البارونة مارغريت هودج بطلة مكافحة الفساد، لدعم التعاون بين البرلمان والقطاع الخاص والمجتمع المدني".
وتشمل هذه التدابير توسيع تمويل وحدة الفساد الدولي التابعة للوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة، وفرض عقوبات على تجارة الذهب غير المشروعة التي تُستخدم لتمويل الصراعات العالمية. وتتسق هذه الجهود مع خطة الحكومة الأوسع التي تهدف إلى دمج استراتيجيات مكافحة الفساد مع تعزيز الأمن القومي والنمو الاقتصادي والانخراط الدبلوماسي. ومن خلال هذا النهج الشامل، تسعى المملكة المتحدة إلى التعامل مع تحديات ما بعد الأسد في المنطقة، مع التركيز على مكافحة الفساد وتعزيز الاستقرار، من خلال تعاون اقتصادي وأمني مع شركائها الإقليميين والدوليين.