حذّر اقتصاديون من مغبة استمرار الحكومة السودانية في فرضها للضرائب والرسوم واعتمادها بصورة كلية على "جيب" المواطن، وأكدوا أن ذلك من شأنه أن يؤثر على النمو الاقتصادي في البلاد في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية. وقالوا لـ"العربي الجديد" إنه يمكن للاقتصاد أن يتعافى اذا اعتمدت الحكومة على الموارد الذاتية واستطاعت التوصل إلى تفاهمات بشأن الديون الخارجية، مؤكدين أن النمو الإيجابي يعتمد على سياسات وزارة المالية وإمكانية الحصول على موارد إضافية دون الاعتماد على الرسوم والجبايات على الخدمات لتستطيع تحقيق معدل نمو إيجابي.
في هذه الأثناء، توقع البنك الدولي أن يحقق الاقتصاد السوداني نموا إيجابيا في الناتج المحلي الإجمالي خلال 2023، يبلغ حوالي 2% بعد ثلاث سنوات عجاف، وفقا لتقرير البنك الأخير عن الآفاق الاقتصادية العالمية. وتوقع البنك أيضًا أن يتعزز هذا النمو (ببطء) العام المقبل 2024 ليبلغ 2.5%، لكنه اعتبر أن تباطؤ النمو يمثل تحديًا للتنمية الاقتصادية.
ولم يحقق الاقتصاد السوداني خلال السنوات الماضية نموًا في الناتج المحلي الإجمالي، بل تآكل بعض النمو الذي حققه سابقًا، حيث عانى من نموٍ سالب بلغ -3.6 % في العام 2020، و-1.9% في العام 2021، ليتعافى قليلا ويبلغ 0.3% بحسب تقديرات البنك للعام 2022 رغم أن موازنة العام 2022 توقعت تحقيق نمو نسبته 1.4%.
وقال البنك إنه يمكن أن تؤدي الديون وعدم اليقين بشأن السياسات والعنف والصراع إلى إبقاء، وتيرة التعافي، والنمو منخفضة وبطيئة. كما يمكن أن تزيد الدخول بنسبة 1.2 بالمائة فقط في المتوسط في 2023-2024، لكنه معدل أبطأ بكثير مقارنة بما هو مطلوب للحفاظ على التقدم في الحد من الفقر وعكس خسائر الدخل التي تكبدتها البلاد بسبب جائحة كورونا وغيرها.
اختلالات اقتصادية
وعانى الاقتصاد السوداني مؤخرا من اختلالات اقتصادية ظهرت بشكل أكثر وضوحا منذ بداية 2018 مع التراجع الكبير والحاد في قيمة الجنيه السوداني، والذي تسبب في أزمة أو عجز في توافر السلع الأساسية، وتراجع في الخدمات العامة، وانعكس بصورة كبيرة على الأنشطة الاقتصادية الرئيسة، خصوصًا الأنشطة الزراعية، وبالتالي مستويات المعيشة والدخول لنسبة كبيرة من السكان، خصوصًا مع ارتفاع معدلات التضخم بصورة سريعة؛ لتتجاوز معدلات الزيادة في أسعار السلع الغذائية الرئيسة.
وظهرت تلك الاختلالات على المستوين الداخلي والخارجي. فقد بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للسودان لعام 2019 حوالي %2.5 وانخفض المعدل نتيجة للتداعيات الاقتصادية لجائحة كوفيد-19 مع نهاية 2020. والحقيقة أن هذا الاتجاه التنازلي لمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لم يقتصر على السنوات الأخيرة، بل بدأ منذ عام 2005 وازدادت حدته بعد انفصال الشمال عن الجنوب، ما أدى إلى تراجع حجم العائدات البترولية للدولة وتسبب بمشاكل اقتصادية فضلًا عن فشل برامج الإصلاح الاقتصادي في الأعوام الأخيرة.
وشهد الاقتصاد السوداني تراجعًا متواصلًا في أداء القطاعات الاقتصادية الحقيقية والمتمثلة في الزراعة والصناعة، حيث تراجع معدل النمو السنوي الحقيقي للإنتاج الزراعي إلى أكثر من - 2% ، نتيجة تدهور سياسات التمويل والتسويق الزراعي، وكذلك انخفاض إنتاجية القطاع الزراعي. كما تراجعت إنتاجية قطاع الصناعة، نتيجة تدهور الظروف الاقتصادية ومشاكل النقد الأجنبي وتوافر السلع الرأسمالية والتمويل، حيث انخفض إسهام القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 7% مقارنة بـ 13% قبل عشر سنوات، كما أغلق حوالي 40% من المنشآت الصناعية في السودان في السنتين الأخيرتين.
يقول الخبير الاقتصادي الفاتح عثمان لـ"العربي الجديد" إن النمو الاقتصادي الإيجابي المتوقع في السودان في العام 2023 سيكون في حدود 2% وفقا لتقديرات البنك الدولي في ظل تبني الحكومة السودانية لإصلاحات قاسية جدا تستهدف تخفيض التضخم وهو ما ابطأ حركة الاقتصاد السوداني في العام الماضي. ولكن من المتوقع أن يجني السودان ثمارها بالتوسع في الزراعة والتعدين ودخول استثمارات ضخمة في مجالات البنية التحتية بالإضافة الى تحسن أداء قطاعي التعدين والبترول، وهو ما يعني توقف انكماش الاقتصاد السوداني الذي استمر لثلاثة أعوام متتالية بعد سقوط الرئيس السابق عمر البشير، متأثرا بجائحة كورونا وبالسياسات الاقتصادية الإصلاحية التي تبنتها الحكومة الانتقالية.
مشكلة الديون
ويرى الفاتح أنه لا تزال مشكلة الديون الخارجية تهدد بإنهاء نمو الاقتصاد السوداني المتوقع في هذا العام والعام المقبل، لأن الاقتصاد السوداني غير مؤهل للبدء في سداد الديون الخارجية ابتداء من العام المقبل، وبالتالي يجب على الحكومة الانتقالية الجديدة السعي لإعفاء بقية الديون الخارجية، أو على الأقل تأجيل السداد لعشر سنوات أخرى مقبلة.
أما الاقتصادي محمد الناير، فيرى في حديثه لـ"العربي الجديد" أن الأمر متوقع باعتبار أن الأعوام السابقة تأثرت بجائحة كورونا والأزمة الاقتصادية الناتجة من الحرب الروسية الأوكرانية. وبالتالي، فإن السودان يتوقع أن يحقق نموا منخفضا وليس مرتفعا، مشيرًا في الوقت نفسه إلى أن حالة الركود وزيادة الرسوم والضرائب واعتماد الدولة على جيب المواطن تؤثر سلبًا على الأوضاع العامة والاقتصادية بصورة خاصة.
ودعا الناير إلى الاعتماد على الموارد الذاتية، بدلًا من جيب المواطن. ورأى أن سياسات الدولة التي تنتهجها لن تقلل من معدلات الفقر والبطالة، ولن تحقق معدل نمو مشجع، إذ قد لا يتجاوز هذا المعدل الـ2 %، وهو لا يكفي لإخراج اقتصاد السودان من حالة الركود التي يعانىها.