الأرقام الجامبو وواقع الاقتصاد السعودي

24 أكتوبر 2017
ولي العهد السعودي يعلن عن مشروع بـ500 مليار دولار(Getty)
+ الخط -
يتحسس أي صحافي اقتصادي قلمه عندما يسمع تصريحات صادرة عن مسؤول رسمي تؤكد رصد حكومة بلاده أرقاما فلكية من الأموال، لضخها في استثمارات جديدة، خاصة إذا ما كانت هذه الحكومة تعاني من عجز في الموازنة العامة وتراجع في ايرادات الدولة.

وغالبا ما "يهرش" الصحافي رأسه عدة مرات، عندما يقرأ أن رجل أعمال واحداً، أو مؤسسة مالية غير معروفة، أو حتى حكومة، ستؤسس مشروعا جديداً بمليارات الدولارات، وليس بملايين الدولارات، ذلك لأن عشرات المليارات من الدولارات هو رقم قد يفوق القدرات المالية لدول، بل ويزيد عن رأسمال مجموع شركات رجل الأعمال.

ويتكرر هذا المشهد في حال إعلان هذا المسؤول أنه ستتم إقامة مشروع استثماري مشترك بين عدة دول بكلفة تبلغ عدة مئات من مليارات الدولارات، ذلك أن سماع رقم مئات المليارات كفيل بالتشكك في المشروع المعلن، خاصة إذا كان إعلانه لا تسبقه دراسات جدوى تحدد بدقة التكلفة والمساهمين وآلية التمويل والعائد الاقتصادي.

والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما حدث في مصر خلال السنوات الأربع الأخيرة، فقبل 31 شهرا خرج علينا وزراء ومسؤولون مصريون بتصريحات مفادها أن مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي الذي عقد في شهر مارس/آذار 2015 جذب استثمارات أجنبية تبلغ قيمتها 175.2 مليار دولار، كما نقلت جريدة الأهرام الرسمية منتصف الشهر على لسان وزير الاستثمار، أشرف سلمان حينئذ، ورغم مرور كل هذا الوقت على هذا الإعلان لم تجذب البلاد حتى 10% من هذا المبلغ.

وتكرر الموقف مع مشروع قناة السويس حيث قيل إن إيرادات القناة ستبلغ 100 مليار دولار سنوياً عقب إقامة التفريعة الجديدة، التي كلفت البلاد 64 مليار جنيه "ما يعادل أكثر من 8 مليارات دولار" في ذلك الوقت، وبدلا من انتظار المائة مليار دولار أو حتى 23 مليار دولار رأينا تراجعاً أصلا في إيرادات القناة الرئيسية بسبب بطء التجارة الدولية.

وهناك أمثلة أخرى على الأرقام الفلكية التي نطلق عليها، نحن الصحافيين الاقتصاديين، "الأرقام الجامبو"، منها مثلا ما تم إعلانه في إبريل/نيسان 2014 من قبل شركة أرابيتك الإماراتية عن إقامة مليون وحدة سكنية في مصر بتكلفة استثمارية 240 مليار جنيه، (ما يعادل 40 مليار دولار) في ذلك الوقت، أو إقامة عاصمة إدارية جديدة شرق القاهرة بتكلفة 90 مليار دولار، منها 45 مليار دولار للمرحلة الأولى. 

الأرقام "الجامبو" ليست قاصرة فقط على مصر فهي موجودة في معظم الدول العربية، وأحدث مثال على ذلك ما أعلنه ولي العهد، محمد بن سلمان، اليوم الثلاثاء، عن إقامة مشروع مدينة استثمارية بتكلفة نصف تريليون دولار (أي 500 مليار دولار) وأن المشروع سيقام عبر أراضي السعودية ومصر والأردن ويحمل اسم "نيوم".

وقبلها أعلن ولي العهد السعودي أن القيمة السوقية لشركة أرامكو، التي تقرر بيع 5% من أسهمها في الأسواق الدولية، تتجاوز تريليونَي دولار أي ألفي مليار دولار، رغم أن وكالة بلومبيرغ الاقتصادية الأميركية نقلت عن محللين في صناعة النفط العالمية ومؤسسات مالية كبرى قولهم إن القيمة السوقية لأرامكو قد لا تزيد عن 400 مليار دولار.

ضخامة الرقم الأخير، الذي أعلنه اليوم ولي العهد السعودي والبالغ نصف تريليون دولار، لفتت أنظار الكثيرين خاصة هؤلاء المتابعين للشأن الاقتصادي السعودي، فقد تساءل هؤلاء عن حقيقة هذا الرقم، ومن أين سيتم تمويل المشروع العملاق، خاصة أن الجميع يتابع مؤشرات الاقتصاد السعودي الأخيرة وتراجع الايرادات العامة بسبب ما حدث في سوق النفط العالمية وفقدان الأسعار أكثر من 50% من قيمتها، وأنه لا توجد في الأفق القريب إشارات تدل على تحسن أسعار النفط والتي تعد السعودية أكبر منتجيه ومصدريه عالميا.

كما أن موازنة المملكة تعاني أصلا من عجز يقدر بنحو 52 مليار دولار عن العام المالي الحالي، إضافة إلى أن حكومة المملكة توسعت خلال الفترة الأخيرة في الاقتراض الخارجي لسد العجز الناجم عن تهاوي أسعار النفط، وبالتالي هي تكافح من أجل خفض العجز.

قد يقول البعض إن السعودية لديها احتياطي أجنبي يبلغ نحو 500 مليار دولار، وإنه سيتم توجيه جزء من الاحتياطي لتمويل المشروع الضخم وغيره من المشروعات الكبرى، مثل مشروع البحر الأحمر الذي ستتم إقامته على أكثر من 50 جزيرة طبيعية ولم يتم الكشف عن تكلفته وأسلوب تمويله حتى الآن، لكن ما يعرفه الاقتصاديون هو أن هناك أغراضا محددة للاحتياطيات الأجنبية، مثل سداد الديون الخارجية ودعم استقرار سوق الصرف وتمويل التجارة الخارجية للبلاد، وأنه ما كونت الحكومات الاحتياطيات الأجنبية لتمويل مشروعات استثمارية.

وقد يقول البعض إن مشروع النصف تريليون دولار سيتم تمويله من الصندوق السيادي السعودي، لكن هل الصندوق قادر على تخصيص 500 مليار من أمواله لمشروع واحد، رغم أن أموال الصندوق لا تتجاوز 230 مليار دولار كما أعلن اليوم؟ علماً بأن الصندوق خصص مؤخرا جزءا مهما من أمواله للاستحواذ على شركات وقطاعات اقتصادية مهمة، كما ضخ 45 مليار دولار في مشروع سوفت بنك، واستثمر 3.5 مليارات دولار فى شركة أوبر الأميركية لخدمات التوصيل.

السؤال هنا هو: من أين ستدبر الحكومة السعودية 500 مليار دولار لمشروع واحد هو "نيوم"؟ ربما يكون رهان الحكومة في تدبير أموال للمشروع الاستثماري هو بيع العديد من الشركات الحكومية، مثل أرامكو وغيرها، وفرض مزيد من الضرائب والرسوم على المواطنين والوافدين وزيادة أسعار السلع والوقود، وربما لن يرى المشروع النور أصلاً، شأنه في ذلك شأن العديد من المشروعات الأخرى، التي أعلنت عنها حكومات عربية عدة لأغراض سياسية بحتة.

المساهمون