اقتصادات ما بعد الجائحة

02 يونيو 2021
الأسواق الأوروبية تعود للانتعاش (Getty)
+ الخط -

مع تزايد أعداد الحاصلين على جرعتي المصل المضاد لفيروس كوفيد-19، خاصة في الاقتصادات الكبرى، يزداد التفاؤل باستعادة الاقتصاد العالمي لانتعاشه واقترابه من العودة لما كانت عليه المؤشرات الاقتصادية الأكثر أهمية في فترة ما قبل ظهور الوباء، إلا أن أغلب ما نشهده حولنا في الوقت الحالي يؤكد أن هذه العودة لن تكون بالقوة نفسها في مختلف بقاع العالم.

ومع اختلاف القدرات والإمكانات في بلدان العالم، وتباين معدلات الاستثمار والإنتاج والتوظيف، يظل التفاوت في أعداد من حصلوا على جرعتي المصل هو العنصر الأكثر تأثيراً في عودة بلد إلى معدلات ما قبل ظهور الوباء وتخلف آخر.

ويزداد التفاوت مع وجود بعض العوامل التي تتميز بها بعض البلدان النامية والفقيرة، مثل غياب الشفافية في ما يخص أعداد المصابين والمتوفين وأعداد متلقي المصل، كما توفر الأمصال مرتفعة الفعالية، وإتاحتها للمواطنين على السواء، بالإضافة إلى التعامل الجاد مع الإجراءات الاحترازية، أو التسرع باتخاذ قرارات الفتح في وقت لم يحصل فيه على الجرعتين إلا أقل من واحد بالمائة من عدد السكان.

وقبل يومين، أصدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD تقريراً عبرت فيه عن تفاؤلها بانتعاش الاقتصاد العالمي، رافعةً توقعاتها لمعدلات النمو إلى 5.8% بدلاً من 5.6%، إلا أنها أكدت أن معدلات النمو لن تكون واحدة في جميع البلدان.

وأشار التقرير أيضاً إلى اتساع الفجوة في معدلات النمو الاقتصادي، وبالتالي في مستويات الدخل والمعيشة، بين البلدان المختلفة وأحياناً داخل البلد الواحد، بسبب عدم قدرة بعض الاقتصادات على العودة إلى مستويات ما قبل ظهور الوباء لفترات لن تكون قصيرة.

سياحة وسفر
التحديثات الحية

ونشرت المنظمة خريطة لبلدان العالم توضح عدد السنوات المطلوبة لعودة النشاط الاقتصادي إلى ما كان عليه عند بداية عام 2020، مستخدمة سبع درجات من اللون الأزرق، يمثل أفتحها أقصر فترة، وهي أقل من عام، وشملت وفقاً للمنظمة الصين، ثم الدرجة الأغمق قليلاً وتمتد لعامٍ ونصف تنتهي بنهاية شهر يونيو/ حزيران القادم، وشملت وفقاً للمنظمة الولايات المتحدة، وصولاً إلى الدرجة الأغمق من اللون الأزرق، وتحتاج فيها البلدان لأكثر من ثلاثة أعوام للعودة إلى المعدلات السابقة لظهور الوباء، وشملت وفقاً للمنظمة الأرجنتين وإسبانيا.

وكانت قارة أفريقيا باستثناء دولة جنوب أفريقيا، وبعض الدول العربية في آسيا، ملونة باللون الأسود، ولا يعرف أحد متى تعود الدول التي بداخله إلى ما كانت عليه قبل عام 2020.

وأشارت المنظمة إلى أن الإجراءات القوية والسريعة التي اتخذتها الحكومات والبنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى شكلت الوقود المطلوب لإحداث الطفرة في أحجام التجارة الدولية والتصنيع والإنفاق الاستهلاكي في أسرع وقت، مؤكدةً أن ذلك كان له الدور الأكبر في الحد من آثار الجائحة.

ما تحدثت عنه وأشادت به منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD لم يحدث في أغلب الاقتصادات الناشئة والنامية، والتي عادة ما تكون أقل قدرة على امتصاص الأزمات العالمية، كتلك التي تعرضت لها اقتصادات العالم خلال العام الماضي.

لم تكن الحكومات في تلك الدول قادرة على زيادة الإنفاق أو تقديم المساعدات للمحتاجين أو القيام بالالتزامات الاجتماعية على النحو الذي حدث في الاقتصادات الكبرى، واكتفت تلك الحكومات، عمداً أو دون قصد، بتوجيه أغلب الموارد المتاحة، وكل ما استطاعت اقتراضه من المؤسسات الدولية، نحو سداد التزاماتها تجاه العالم الخارجي، حفظاً لماء وجهها، وربما تجنباً للتعرض لتبعات عدم الالتزام.

حُرمت أغلب الاقتصادات الصغرى من حزم التحفيز الاقتصادي الحكومية، ومن النصيب العادل من اللقاح المطلوب لمواطنيها، لتتضاعف أزماتها وتتراجع حظوظها في العودة إلى ما كانت عليه قبل ظهور الوباء، وهو في الأصل لم يكن مُرضياً في أغلب أحواله.

ورغم توجه العديد من تلك البلدان، مثل مصر وتركيا، نحو تصنيع اللقاح محلياً والإسراع بالفتح قبل التأكد من عبور عنق زجاجة الأزمة، لا يبدو أن الانتعاش سيكون قريباً في أي منها. الفيروس يتحور في أغلب البلدان النامية والناشئة، ولنا في الهند أكبر دليل على ذلك، وهناك أدلة كثيرة على حدوث ذلك في بلدان أخرى رغم التعتيم.

ومع التسليم بهذه الحقيقة، وعدم القدرة على التأخر أكثر من ذلك في إعادة الفتح الكامل للاقتصاد، لن يكون أمام الاقتصادات النامية إلا الإسراع بتطعيم المواطنين، حتى لا تستمر خسائرها المادية والبشرية في الارتفاع.

تجاهد العديد من الاقتصادات النامية مع معدلات نموها المنخفضة وتراجع مستويات الدخل الفردي، لتأتي أزمات مثل أزمة الوباء فتهدم ما تم بناؤه في سنوات وتضعف قدرات النمو لدى تلك البلدان.

وتلجأ بعض تلك الدول إلى الحل الأسهل، بالاستغراق في الاقتراض والاعتماد على المعونات الخارجية، كما تفعل العديد من الدول الأفريقية، بينما تدرك أخريات أن خروجها من الأزمة واستمرار التعافي يستلزم بناء طاقات إنتاجية دائمة أو خلق تدفق دائم من عائدات السياحة توفر العملة الأجنبية للبلاد وتغنيها عن سؤال اللئيم.

أبدى الكثيرون دهشتهم من ارتفاع الدين الخارجي في بعض البلدان، أو من استمرار تعرض العملة المحلية لضغوط كبيرة، رغم تحقيق معدلات نمو مرتفعة في كثير من الأحيان.

ولو نظر هؤلاء بموضوعية لعرفوا أن تحقيق معدلات النمو المرتفعة لا يكون كافياً في كثير من الأحيان لحماية البلاد من الأزمات الكبرى، وخاصة ما يتعلق بالدين الخارجي أو بتردي سعر العملة المحلية مقابل الدولار.

وحده التوجه نحو التصنيع بغرض التصدير، أو بغرض الاستغناء عن الواردات، يمكنه أن يساهم في حل مشكلات الاقتصادات على المدى الطويل، ويرفع معدلات النمو مع خلق تدفق دائم للعملة الأجنبية، بما يساعد على الاستغناء عن القروض الخارجية.

ربما ينجح بناء الطرق والجسور والقصور الرئيسية وافتتاح المساجد في زيادة معدلات النمو أو تحقيق مكاسب انتخابية، إلا أنه لا يمنع تعرض البلاد لأزمات نقص العملة الأجنبية التي تكون غالباً أم أزمات الاقتصاد. ولو آمن أهل الاقتصادات النامية بذلك لكان خيراً لهم.

المساهمون