استحقاقات داهمة أمام حكومة لبنان الجديدة

17 سبتمبر 2021
نجيب ميقاتي تخطى التحدّي الأبرز الذي واجه ولادة الحكومة اللبنانية (Getty)
+ الخط -

بعد نحو شهر ونصف الشهر على تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة اللبنانيّة، تمكّن الرئيس المكلّف أخيراً من التوصّل إلى تفاهم مع رئيس الجمهوريّة وأبرز القوى السياسيّة التي سمّته على هذه التشكيلة.

وبذلك، تخطّى ميقاتي التحدّي الأبرز الذي واجه ولادة الحكومة، خصوصاً أن سلفه في التكليف سعد الحريري أمضى نحو تسعة أشهر بعد تكليفه بتشكيل الحكومة دون أن يتمكّن من إنجاز هذا التفاهم، ما أفضى إلى اعتذاره عن هذه المهمّة.
مهّد هذا التطوّر لإصدار مراسيم تأليف الحكومة يوم الجمعة الماضي حاملةً توقيعي عون وميقاتي، فيما بات نيل الحكومة الثقة في المجلس النيابي بحكم المضمون، بالنظر إلى طبيعة الائتلاف السياسي الواسع الذي توافق على هذه التشكيلة.

وهكذا أصبح من الأكيد أننا أمام حكومة ستتمكن في القريب العاجل من ممارسة صلاحياتها التنفيذيّة الكاملة، بعد مرور سنة وشهر على استقالة الحكومة السابقة، والتي استمرّت طوال هذه الفترة بالعمل ضمن حدود تصريف الأعمال الضيّقة جداً.

كل هذه التطوّرات تفتح الباب أمام تلمّس أبرز الاستحقاقات الماليّة والاقتصاديّة الداهمة التي ستواجه هذه الحكومة فور نيلها الثقة وبدء الوزراء بممارسة أعمالهم، خصوصاً أن المهلة المتاحة للحسم في بعض الملفات باتت تُقاس بالأيام المعدودة.

وفي الوقت نفسه، تفتح هذه التطورات باب التكهّن بوجهة هذه الحكومة الاقتصاديّة والمقاربات التي ستعتمدها في وجه هذه الاستحقاقات، وهو ما سيحدد عملياً طبيعة الفئات الاجتماعيّة التي ستتحمّل كلفة التصحيح المالي.

الملف الأوّل الذي سيفرض نفسه على حكومة ميقاتي في أولى أيامها، سيكون ملف الخروج من مرحلة دعم المواد الأساسيّة بشكل منظّم ومدروس. ففي نهاية الأسبوع الماضي، توقّف مصرف لبنان عن فتح الاعتمادات لاستيراد المحروقات على أنواعها، وسط أنباء عن نفاد السيولة التي تم تخصيصها بقيمة 225 مليون دولار من ميزانية الحكومة لدعم استيراد هذه المواد، بشكل مؤقت وكمرحلة انتقاليّة قبل رفع الدعم التام.

مع الإشارة إلى أن هذه المرحلة الانتقاليّة جاءت أساساً بعد إعلان المصرف المركزي في شهر آب/أغسطس الماضي وقف تمويل استيراد المحروقات وفق أسعار الصرف المدعومة من احتياطاته، بعد استنفاد احتياطات العملة الاجنبيّة القابلة للاستخدام في هذه العمليات.

من الناحية العمليّة، سيعني وقف الدعم خلال الأيام المقبلة استيراد المحروقات وبيعها في السوق وفقاً للسعر الفعلي في السوق، ما سيؤدّي إلى ارتفاع أسعارها بالعملة المحليّة بنحو الضعف على أقل تقدير، كون سعر الصرف المعتمد حالياً لبيع هذه المواد في السوق يقارب نصف سعر الصرف الفعلي في السوق الموازية.

لهذا السبب، ستواجه الحكومة الجديدة خلال فترة قصيرة جداً ارتدادات هذا التطوّر على المستوى المعيشي والاجتماعي، وعلى مستويات تضخّم الأسعار، كون كلفة شراء المحروقات ستؤثّر تلقائياً على أسعار كافة الخدمات والسلع الأخرى في الأسواق.

وهذه المسألة ستؤثّر بدورها على قدرة المقيمين الشرائيّة ونسبة الفقراء منهم، في حين أن نحو 82% من السكان باتوا يعيشون أساساً في فقر متعدد الأبعاد وفقاً لتقديرات الإسكوا.

أما الإشكاليّة الأهم أمام الحكومة، فستكون التعقيدات النقديّة التي ستصاحب هذا التطوّر. فصيغة الدعم السابقة اعتمدت على احتياطات مصرف لبنان لتأمين الدولارات المطلوبة لاستيراد المحروقات وفق سعر صرف مدعوم. أما اليوم، فإحالة الطلب على هذه الدولارات إلى السوق الموازية وحدها ستؤدّي إلى المزيد من التدهور في سعر صرف الليرة.

في المقابل، مازالت منصّة مصرف لبنان المخصصة للتداول بالعملات الأجنبيّة غير قادرة على استيعاب هذا النوع من الطلب الضخم على الدولارات، بالنظر إلى حجم عملياتها المحدود.

وهذه الإشكاليّة ترتبط بدورها بعدم وجود أي رؤية لكيفيّة الخروج من مرحلة أسعار الصرف المتعددة، بما فيها تلك المعتمدة لاستيراد السلع بأسعار صرف مدعومة.

وبما أن الخروج من مرحلة دعم الاستيراد قد فرض نفسه كأمر واقع اليوم، فعلى حكومة ميقاتي أن تكوّن خلال فترة قصيرة تصوّرا ما لكيفيّة التعامل مع ملف فوضى أسعار الصرف وتعددها، بالتنسيق مع المصرف المركزي، وكجزء من رؤية ماليّة أشمل تكفل التعامل مع الارتدادات المعيشيّة لإلغاء أسعار الصرف المدعومة.

على أي حال، يقودنا الحديث عن رفع الدعم عن الاستيراد إلى آليات الدعم البديلة، والتي يفترض أن تكون البطاقة التمويليّة أبرزها. لكنّ هذه البطاقة، ورغم تحضير المنصّة المخصصة لتلقي طلباتها، ستحتاج من الحكومة المقبلة إلى خطوات عمليّة لتفعيلها، وتحديداً على مستوى تأمين التمويل لها.

فالحصول على جزء من التمويل من البنك الدولي عبر إعادة تخصيص قروض كانت ممنوحة لغايات أخرى، سيستلزم مسارا معيّنا من التفاوض حول آليات عمل البطاقة ومعايير الشفافيّة المعتمدة لمنحها.

أما الخطوة الأهم، والتي يفترض أن تبادر الحكومة إلى القيام بها فور نيلها الثقة، فهي إعادة إطلاق العمل على خطة التعافي الماليّة الشاملة. فهذه الخطّة هي وحدها ما يمكن أن يمثّل أرضيّة يمكن الدخول على أساسها في المفاوضات مع صندوق النقد من جديد، ومن ثم التوجّه نحو الدائنين المحليين والأجانب للتفاهم على إعادة هيكلة الديون السياديّة وفق آجال وفوائد جديدة.

وفي ظل فقدان الثقة على المستوى الدولي بإدارة لبنان لأزمته، من الصعب الحصول على أي دعم مالي خارجي وازن دون هذا النوع من الخطط التي تضبط إيقاع تعاطي السلطة مع تداعيات الانهيار.

أخيراً، يبرز إلى الواجهة ملف التدقيق الجنائي في المصرف المركزي، والذي يفترض أن يمثّل اليوم الأداة التي يمكن من خلالها تشريح ميزانيات المصرف وفهم حجم الخسائر الموجودة فيها، بالإضافة إلى أسباب هذه الخسائر والأطراف المسؤولة عنها.

وخلال الأسابيع الماضية، أنجزت حكومة تصريف الأعمال جميع الخطوات البيروقراطيّة المطلوبة قبل مباشرة هذا التدقيق، بما فيها توقيع العقود وتذليل العقبات التي عرقلت هذا الملف في السابق. وبالتالي، فمن المرتقب أن تكون جميع الظروف مهيّأة لبدء عمل الشركة المكلّفة بإجراء هذا التدقيق خلال الأيام المقبلة.

في مقابل كل هذه التحديات الكبيرة، والتي يرتبط معظمها بمخاطر داهمة لا تحتمل تأجيل التعامل معها، يسود انطباع عام بأن مبدأ المحاصصة الذي حكم توزيع الحقائب بين الأحزاب في هذه الحكومة سيعيق انسجامها خلال الفترة المقبلة.

لا بل ثمة ما يكفي من مؤشّرات إلى أن مجلس الوزراء الجديد قد يكون حلبة صراع يحاول كل طرف فيها المحافظة على الحد الأدنى من مكاسبه في ظل الانهيار المالي، أو حماية مصالحه خلال مرحلة توزيع الخسائر، خصوصاً أن تمسّك كل حزب أو قطب سياسي بحقائب وزاريّة معيّنة كان يرتبط بمصالح معيّنة متصلة بهذه الحقائب.

وبغياب الانسجام المطلوب حول خارطة طريق اقتصاديّة وماليّة واضحة، من المستبعد أن تتمكّن الحكومة من التعامل مع تحديات بهذا الحجم. فتجربة الحكومة الماضية أثبتت بما لا يقبل الشك أن التعامل مع انهيار اقتصادي بهذه الخطورة مستحيل بقرارات متفرّقة من جهات رسميّة تتباعد في مقارباتها الماليّة.

المساهمون