نقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية المصرية قبل أيام عن البنك المركزي المصري إعلانه "ارتفاع" احتياطيات النقد الأجنبي من 40.609 مليار دولار في يوليو/ تموز إلى 40.672 مليار دولار في أغسطس/ آب، مشيرةً إلى تواصل ارتفاعاته خلال الشهور الأخيرة، بعدما تراجعت إلى نحو 36 مليار دولار بسبب آثار جائحة فيروس كورونا.
وبالفعل ارتفعت احتياطيات النقد الأجنبي في مصر كما نقلت وكالة الأنباء، وبالفعل واصلت ارتفاعها خلال الشهور الأخيرة، إلا أنها استقرت عند 40 مليار دولار وكسور منذ شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي حتى الآن، حيث كانت كل الزيادات الأخيرة طفيفة، حتى أن ثمانية أشهر لم تنجح في نقل الاحتياطي المصري إلى خانة الواحد وأربعين مليار دولار.
لكن الحقيقة أن مجرد استقرار الاحتياطيات النقدية عند هذا المستوى يعد أمراً جيداً، إلا أنه سيكون من الضروري استحضار بقية تفاصيل المشهد الاقتصادي المصري لنعرف إذا كان رقم الاحتياطي جيداً فعلاً، أم أنه يخفي في طياته العديد من أوجه القصور.
ولا تكتمل صورة الاقتصاد المصري، وتحديداً ما يخص الجانب الخارجي منه، الذي يعد احتياطي النقد الأجنبي أحد أهم عناصره، إلا بمعرفة التطور المصاحب للارتفاع الذي حدث، في كل من الدين الخارجي، وأيضاً ما بحوزة الأجانب من أدوات الدين المصري بالعملة المحلية سواء من السندات أو أذون الخزانة.
تشير بيانات البنك المركزي المصري إلى ارتفاع الدين الخارجي خلال الربع الأول من 2021 بستة مليارات دولار، ليصل إلى ما يقرب من 135 مليار دولار، وهو ما يعني أن زيادة هذا الدين مثلت ما يقرب من 10 أضعاف الزيادة في الاحتياطي خلال تسعة أشهر
وتشير بيانات البنك المركزي المصري إلى ارتفاع الدين الخارجي خلال الربع الأول من العام الحالي بستة مليارات دولار، ليصل إلى ما يقرب من 135 مليار دولار، وهو ما يعني أن زيادة الدين الخارجي خلال ثلاثة أشهر فقط مثلت ما يقرب من عشرة أضعاف الزيادة في الاحتياطي خلال تسعة أشهر.
وخلال السنوات الثماني الأخيرة، ارتفع الدين الخارجي المصري بمعدلات تراوحت بين 14% و44%، ليصل إلى ما يعادل 35% من الناتج المحلي الإجمالي المصري، بعدما كان لا يتجاوز 14% منه في عام 2013.
ورغم دفع البعض بأن الدين ما زال في الحدود الآمنة، والتي سمعناها أول مرة عند مستوى دين خارجي يمثل ثلث المستوى الحالي، يثير ارتفاع نسبة الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي، خاصة في ظل ضعف المكون الدولاري من الناتج المحلي الإجمالي المصري، الكثير من القلق، لا من عدم تمكن الحكومة المصرية من الوفاء بديونها، وإنما من المقابل الذي تتحمله الدولة المصرية في سبيل مد أجل أو تجديد الودائع الخليجية المودعة لدى البنك المركزي المصري، أو محاولات اقتراض المزيد من الدولارات من السوق الدولية في صورة سندات أو أذون خزانة بالعملة الأجنبية.
وتزامنت زيادة الدين الخارجي مع ارتفاع الحيازات الأجنبية لأذون الخزانة قصيرة الأجل بالعملة المحلية مما يعرف بـ"الأموال الساخنة" في عمليات "تجارة سعر الفائدة" التي يتحصل فيها المستثمرون على معدلات فائدة الجنيه المصري المرتفعة، مع تثبيت البنك المركزي لسعر صرف الدولار مقابل الجنيه، أو تقوية الجنيه، بما يسمح بزيادة العائد الحقيقي الذي يحققه الأجانب على تلك الاستثمارات.
ومع أول علامة على ارتفاع مخاطر تلك الاستثمارات، يكون هؤلاء أول الخارجين من الأسواق، مسببين ضغوطا كبيرة على احتياطي النقد الأجنبي المتاح للبلاد، كما حدث عند بداية انتشار وباء كوفيد-19 خلال الربع الأول من عام 2020.
الدين الخارجي المصري ورطة كبيرة، وليس شهادة ثقة في الاقتصاد المصري كما يروج البعض، وسيتحمل تكلفته أبناؤنا وأحفادنا، ما لم نبدأ رحلة سداده في أقرب وقت
وتشير تصريحات وزير المالية المصري، محمد معيط، إلى ارتفاع استثمارات الأجانب من أذون وسندات الخزانة المصرية من حوالي 60 مليون دولار في منتصف عام 2016، إلى نحو 29 مليار دولار بنهاية مايو/ أيار من العام الجاري 2021، رغم خروج أكثر من نصفها خلال أزمة الوباء منتصف العام الماضي.
ولم تتمكن الحكومة المصرية من اجتذاب تلك المبالغ إلا بدفع معدلات فائدة شديدة الارتفاع على عملتها المحلية، كانت ضمن الأعلى في العالم.
وفي شهر إبريل/ نيسان الماضي، أعدت وكالة بلومبيرغ الأميركية للأنباء تقريراً أشارت فيه إلى "استمرار" مصر في دفع أعلى معدل فائدة حقيقي في العالم.
هذه هي الصورة في ما يخص الوضع المالي الخارجي، الذي يمثل استقرار احتياطي النقد الأجنبي واجهة مضللة له، ولا يوجد فيها ما يبشر باقتراب تحسنها مع استمرار عجز الميزان التجاري، وعجز الحساب الجاري، في الاتساع عاماً بعد عام، أولاً بسبب التوسع في مشروعات تستنزف ما يتوفر لنا من عملة أجنبية، رغم عدم وجود حاجة ملحة لها، وثانياً بسبب غياب السياسات التي تشجع التصنيع المحلي وإحلال الواردات، أو التوسع في التصدير، للحد من الفجوة بين ما يدخل البلاد من عملة أجنبية وما يخرج منها.
ولن تكون التأثيرات السلبية لهذه الصورة بعيدة، حيث بدأ المواطن المصري يشعر بانعكاساتها المباشرة على مستوى معيشته وعلى ما يتحصّل عليه من خدمات حكومية، خاصة مع استحواذ بند خدمة الدين على كل إيرادات الحكومة المصرية، ليكون كل ما ينفق بعد ذلك من أجور موظفي الحكومة، وإنفاقها على كل ما يخص التعليم والصحة والصرف الصحي والبحث العلمي، من القروض الجديدة في موازنة كل عام.
الحكومة عرضت أكثر من 20 شركة حكومية للبيع، مع استمرار تقليص دعم الوقود والطاقة والمياه والغذاء، والتوسع في فرض المزيد من الرسوم والتعريفات والغرامات
ولن يكون غريباً بعد ذلك ظهور أفكار مثل رفع سعر رغيف الخبز، وإصدار قانون يسمح بالفصل للموظفين بغير الطريق التأديبي بما يسمح بإنهاء خدمة الآلاف منهم خارج الإطار الإداري القانوني، وعرض أكثر من عشرين شركة حكومية للبيع، مع استمرار تقليص الدعم الحكومي للوقود والطاقة والمياه والغذاء، والتوسع في فرض المزيد من الرسوم والتعريفات والغرامات ومقابل التصالح في المخالفات، على نحو أبهر مسؤولي صندوق النقد الدولي الذين كانوا أول من طالب الحكومة المصرية بالعمل على تقليص عجز الموازنة.
الدين الخارجي المصري ورطة كبيرة، وليس شهادة ثقة في الاقتصاد المصري كما يروج البعض، وسيتحمل تكلفته أبناؤنا وأحفادنا، ما لم نبدأ رحلة سداده في أقرب وقت، وهذا بالطبع لو لم يكن الوضع الحالي متعمداً. وربما، لاحقاً، يكون في هذا تفصيل.