يعد الاقتصاد المصري واحدا من أبرز المتضررين من قرار زيادة سعر الفائدة الأميركية لأسباب عدة، منها اعتماد هذا الاقتصاد على الأموال الأجنبية الساخنة إلى حد كبير، حيث تزيد حصيلة هذه الأموال عن 20.6 مليار دولار بنهاية نوفمبر الماضي، والاعتماد أيضا على الاقتراض الخارجي الغزير في تمويل الفجوة التمويلية وعجز الموازنة سواء من المؤسسات الدولية أو عبر السندات.
وبالتالي فإن رفع الفائدة على الدولار سيرفع من عبء الاقتراض الخارجي، ويقلل من الأموال الساخنة سواء في أدوات الدين المحلية أو البورصة، وهو ما يمثل ضغطا على العملة المحلية وفق مراقبين.
كانت لجنة السياسة النقدية للبنك المركزي المصري، قررت في اجتماعها ربع السنوي يوم 3 فبراير/ شباط الجاري، تثبيت أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض عند مستوى 8.25% و9.25% والإبقاء على سعر الائتمان والخصم عند مستوى 8.75%.
وجاء القرار متسقا مع توقعات مسبقة لمسؤولي أكبر البنوك المحلية، ووسط تقلبات مالية دولية حادة، إذ يؤكد الخبراء أنها ستجبر البنك المركزي على رفع أسعار الفائدة مع نهاية مارس/ آذار المقبل، وتنهي عصر النقود الرخيصة التي استطاعت الحكومة، أن تحصل عليها من السوق المحلية، بينما قدمت أعلى عائد في العالم على السندات التي تصدرها في الأسواق الدولية.
ارتفاع خدمة الدين
ويعد خبراء اقتصاد ومال قرار تثبيت الفائدة خطوة أخيرة لتهرب الحكومة من زيادة أعباء الفائدة على القروض المحلية، بصفتها أكبر مدين للبنوك والمؤسسات المالية، وبما يحد من قدرتها على الاستدانة من "المال الرخيص".
ويبين الخبراء أن رفع أسعار الفائدة بنحو 1% سيساهم في ارتفاع خدمة الدين، ما بين 10 مليارات إلى 12 مليار جنيه سنويا. وتبلغ قيمة خدمة الدين العام في الميزانية الحالية 2021 ـ 2022 حوالي 800 مليار جنيه، بما يعادل 36% من ميزانية الدولة.
وفي مفاجأة أكد مستثمرون من مؤسستي Renaissance Capital وPine Bridge Investments أن السندات الدولارية، التي أصدرتها الحكومة تستعد لتدفق النقد السلبي، مشيرين إلى أن "سعر الفائدة الباهظة في مصر" التي تحتل "المرتبة الأعلى في العالم"، بعد تعديلها وفقا للتضخم.
ورغم حصول المستثمرين على مكاسب هائلة بمتوسط سنوي لا يقل عن 13% وعائد تراكمي صاف على الدولار، يصل إلى 4% بما يزيد عن منافسه التركي بنحو 0.2% وبفارق كبير عن الأسواق الناشئة المنافسة، مثل البرازيل والهند، والمتوقع في الولايات المتحدة عند 2.3%، فإنهم يطالبون الحكومة المصرية بـ "علاوة إضافية للاحتفاظ بالديون المصرية بالدولار، عند 593 نقطة أساس، مماثلة، للعراق وأعلى من الغابون وباكستان، حيث تتحمل الديون بالعملة الصعبة وطأة المخاطر الناجمة عن ارتفاع عوائد سندات الخزانة والعجز في مصر".
وتتوقع الأسواق زيادة أسعار الفائدة على الدولار أربع مرات في العام الحالي، حيث قرر بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي، مواجهة التضخم الذي بلغ 7% لأول مرة منذ 40 عاما، مع تحول أكثر تشددا في البنوك الأوروبية، وأنحاء العالم، بما أحدث تقلبات حادة في أسواق المال، وتغييرات مرتقبة في قرارات المستثمرين، المتعاملين على الأسهم والسندات المصرية.
وتحاول الحكومة المصرية، التهوين من قرار الفيدرالي الأميركي، توجهه إلى رفع أسعار الفائدة، بينما واقع الحال يكشف عن إصابة الأسواق بحالة استنفار على المستويين الرسمي والمؤسسات المالية وممثليها من رجال الأعمال.
قال وزير المالية، محمد معيط، في تصريحات صحافية، مؤخراً، إن "الاقتصاد المصري بخير، وبات أكثر قدرة على تحقيق مؤشرات أداء مالي تفوق توقعات مؤسسات التمويل والتصنيف الدولية"، في الوقت الذي أصيبت فيه الحكومة بحالة من الهلع، مع تناقص موارد البنوك من العملة الصعبة، وزيادة العجز السنوي بين الصادرات والواردات من 18.4 مليار دولار عام 2020 إلى 20 مليار دولار عام 2012، وارتفاع كلفة الدين الخارجي الذي زاد من 3.6% إلى 3.9% خلال الشهور الستة الماضية.
المرحلة الأصعب للاقتصاد
يتوقع خبراء أن الاقتصاد المصري المتعثر سيمر بمرحلة تعد "الأصعب من نوعها"، مقارنة بالسنوات الأخيرة، تحت وطأة، رفع أسعار الفائدة بالأسواق الدولية، وارتفاع التضخم مصحوبا بزيادة كبيرة في أسعار السلع والخدمات الاستراتيجية، وزيادة العجز في الميزان التجاري، مع تراجع جديد في قيمة الجنيه المصري.
وتوقعت مجموعة "هيرمس المالية" لجوء الحكومة إلى المزيد من الاستدانة، من خلال قروض مباشرة، وإصدار سندات. وتبين تقديرات وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني في تقريرها الأخير، أن البنوك المصرية قد تواجه ضغوطا، إذا زادت ندرة النقد الأجنبي، بسبب سداد البنك المركزي لبعض الديون الخارجية، التي يمتلكها القطاع المصرفي، حيث أصبحت تلك الديون أكثر من التزاماته.
كما سيؤدي ارتفاع التضخم، إلى زيادة الضغوط على الأصول الأجنبية بالقطاع المصرفي، مع استمرار توجه الحكومة في استخدام السيولة من العملات الصعبة في البنوك، للوفاء بخدمة الدين.
يتوقع خبراء أن الاقتصاد المصري المتعثر سيمر بمرحلة تعد "الأصعب من نوعها"، مقارنة بالسنوات الأخيرة، تحت وطأة، رفع أسعار الفائدة بالأسواق الدولية
ويتوقع الخبراء أن تؤدي التقلبات النقدية والعجز التجاري، إلى تراجع قيمة الجنيه مقابل الدولار، بنسب تتراوح ما بين 5% إلى 1.5% على الأقل خلال عام 2022، بسبب التدهور في صافي العملة الصعبة، بعد سحب البنك المركزي 32 مليار دولار في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2021، من البنوك المحلية، وبلوغ الدين الخارجي 137.4 مليار دولار في أكتوبر 2021، مع استمرار العجز في إيرادات السياحة، بسبب وباء كورونا وتصاعده، مع تمحور الوباء وتباطؤ حركة السفر الدولية، خلال الفترة الحالية.
مسار التضخم التصاعدي
وستواصل الأسعار مسارها التصاعدي، متأثرة بزيادة أسعار البترول عالميا وارتفاع تكاليف الشحن وتقلب الأسواق، مع ندرة في العملة الصعبة، وزيادة الواردات من السلع التموينية والاستراتيجية، كالحبوب ومشتقات البترول، والسيارات ومعدات الكمبيوتر والمنتجات الطبية والتكنولوجية.
وأضافت الأحداث السياسية في أوكرانيا والعالم، 12 مليار جنيه على فاتورة استيراد القمح، خلال الشهر الماضي. وستعلن الحكومة، خلال شهر مارس/ آذار المقبل، عن خطتها لرفع أسعار الخبز الذي يباع على بطاقات التموين، بحجة عدم قدرتها على زيادة الدعم المخصص سنويا لشراء القمح والحبوب، التي تبلغ نحو 87 مليار جنيه.
ستواصل الأسعار مسارها التصاعدي، متأثرة بزيادة أسعار البترول عالميا وارتفاع تكاليف الشحن وتقلب الأسواق، مع ندرة في العملة الصعبة
وبدأت الأسواق تلقى ردود زيادة معدلات التضخم، التي بلغت نهاية العام الماضي 5.9% عام، متأثرة بموجتين شديدتين، على مدار العام، من ارتفاع أسعار الكهرباء والوقود والمياه والنقل والمساكن والخدمات التعليمية واللحوم الحمراء والدواجن والحبوب والأنشطة الترفيهية.
ويتوقع أن يصل معدل التضخم إلى 6% عام 2022ـ 2023 وفقا للتقديرات الرسمية، بينما يؤكد الخبراء بلوغه نحو 7.5% مع تأثر الأسواق المحلية، بما يحدث من تقلبات دولية وما ستتخذه الحكومة من قرارات، لرفع أسعار الطاقة والخدمات والرسوم، وارتفاع تكاليف الزراعة والنقل والمنتجات الصناعية واللوجيستية، مع استمرار أزمة قطاع السياحة وتوقع انخفاض عائدات المصريين في الخارج في ظل تنافس المؤسسات المالية على رفع الفائدة على العملات الرئيسية.
ويطاول التضخم أسعار المستهلكين، ومستوى معيشة السكان الذين يقبع نحو 29% منهم تحت خط الفقر، حسب بيانات حكومية، وتتعرض الأغلبية متوسطة الدخل التي تضم 60% من تعداد السكان إلى الانجراف لحافة الفقر، بسبب غلاء المعيشة، على مدار السنوات الماضية، وارتفاع معدلات البطالة إلى 7.5% رسميا، حسب البنك الدولي.
وتحاشيا لحدوث اضطرابات سياسية مع موجة الغلاء المقبلة، قررت الحكومة رفع الحد الأدنى للأجور للعاملين بالدولة والقطاع العام، البالغ عددهم نحو 5.3 ملايين موظف، من 2400 جنيه إلى 2700 جنيه شهريا، بما يرفع بند الأجور في الموازنة لعام 2022 ـ 2023 من 361 مليار جنيه إلى 400 مليار جنيه.
ويلقى الاقتراح معارضة شديدة من القطاع الخاص، الذي يرفض حتى الآن، تطبيق الحد الأدنى للأجور حاليا، بسبب أزماته المتعددة، وارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج المحلية والقادمة من الخارج، وزيادة الضرائب والرسوم العامة، وارتفاع مؤشر أسعار الشراء للمديرين، مع عدم قدرة تصريف المنتجات بشكل كامل، أو رفع الأسعار بما يعوضهم عن خسائر الزيادة في تكاليف الإنتاج، بسبب الركود.
ومع توقع صندوق النقد الدولي تباطؤ النمو عالميا من 4.9% عام 2022 إلى 4.4% عام 2023، و3.8% عام 2024، متأثرا بالأزمات السياسية وسلاسل التوريد، وارتفاع أسعار الوقود والأدوية ونضوب الموارد، وارتفاع مستوى التضخم عالميا، وتراجع القوة الشرائية للمواطنين، تتوقع وزيرة التخطيط، هالة السعيد، أن معدلات النمو خلال العام المالي الجديد، ستتخطى نحو 6% إلى 7%، مقابل 5.6% حاليا، مدفوعة بزيادة الصادرات الصناعية والزراعية والاتصالات واللوجيستيك، وعودة السياحة.
وتعهدت الوزيرة في تصريحات صحافية، بقدرة الحكومة على توفير الموارد المالية، لتمويل مشروعات الموازنة الجديدة، التي سيساهم القطاع الخاص بنحو 55% من استثماراتها.
مأزق الأموال الساخنة
وبدأت وزارة المالية سباقا مع الزمن لحجز حصة مصر من سوق الديون، للحصول على قروض جديدة من عدة جهات دولية، مع بوادر انسحاب "الأموال الساخنة" من الأسواق المصرية، التي تستعد لشراء السندات الأميركية وفقا لأسعار الفائدة الجديدة. ورغم حصولها على نسبة أقل ربحية من السوق المصرية، فهي مدفوعة بالتحوط نحو الأمان وتخفيض المخاطر التي تلقاها في مصر وغيرها من الأسواق الناشئة، التي كانت جاذبة للمغامرين والمقامرين في أسواق المال خلال السنوات الماضية.
وتسعى الحكومة إلى الحد من العجز المالي الواسع، بمزيد من القروض، لدفع المستحق منها وفوائدها وإطالة وتوسيع آجال الدين من 3 إلى 5 سنوات. وتتوقع "ستاندرد آند بورز" اتساع العجز بالحساب الجاري وضعف تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، الموجه في أغلبه لقطاع الغاز والبترول.
ووفقا لبيان وزارة المالية، تسعى الحكومة إلى إصدار سندات في الأسواق الأسيوية بالين الياباني في حدود 500 مليون دولار، وسندات خضراء بنحو 750 مليون دولار، وبيع سندات حكومية بالأسواق الناشئة بإدراج 14 إصدارا تبلغ قيمتها 26 مليار دولار، بوساطة من مؤسسة جي بي مورغان المالية.
وتحاول الحكومة التوصل إلى اتفاق مع مؤسسة Euroclear للتمكن من الاتفاق مع مستثمرين يتولون شراء الديون الحكومة المحلية، وهو ما يرفضه عدد من النواب وممثلي الأحزاب المصرية، باعتبارها خطوة تتيح للأجانب بسط سيطرتهم على الشركات والأصول الوطنية، بما يذكر المصريين بسيطرة الأجانب على رأس المال في البلاد، أثناء الاحتلال البريطاني.
وتبدأ الحكومة مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي الذي منحها 20 مليار دولار، منذ عام 2016، للحصول على قروض إضافية تتراوح ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار، أملا في إنقاذها من أزمات متوقعة.
ويعتبر الخبراء مفاوضات مصر مع الصندوق مغامرة جديدة، حيث قررت إدارة الصندوق بعد تلقيها شكاوى عديدة من منظمات حقوق الإنسان، ألا تمنح مصر قروضا أخرى إلا بعد مراجعتها لأساليب الصرف التي حصلت عليها خلال أزمة الوباء، والتي بلغت نحو 8 مليارات دولار.