قلت في مقال سابق لم ينشر إن مقالة هذا الأسبوع سوف تتناول معاني ومغازي الاتفاق الذي وصل إليه الرئيس الأميركي جو بايدن مع زعيم الأكثريةً المعارضة في مجلس الممثلين رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي، والذي صوت عليه المجلس بالقبول. وتبعه بعد ذلك موافقة مجلس الشيوخ الذي يتمتع فيه الديمقراطيون بالأكثرية.
وقد قام الرئيس الأميركي بتوقيعه مساء يوم السبت الموافق الثالث من شهر يونيو/ حزيران، حيث أصبح قانوناً. وقد سبق الاتفاق تحذيرات متكررة من وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يللين (J. Yellen) من أن عدم حلحلة سقف الديون المحدد بـ (31.4) تريليون دولار سوف يؤدي إلى خواء الخزينة من النقد المطلوب للوفاء بالتزاماتها والديون المستحقة عليها.
وبموجب الاتفاق فقد رفع الحد الأعلى للديون لمدة سنتين، وبمبالغ تمكن الخزينة من سداد ديونها المستحقة في مواعيدها. ومضت قائلة إنه في حالة فشل الطرفين الجمهوري والديمقراطي في الوصول إلى حل لهذا الإشكال، فإن كارثة اقتصادية سوف تحصل. وقد أكد الرئيس جو بايدن نفس الفكرة في تصريحاته الصحافية والإعلامية بعد توقيعه للقانون الذي يسمح برفع سقف المديونية عندما صرح: "لو لم نصل إلى اتفاق لحصلت كارثة اقتصادية كبيرة".
وقال: "لقد توصلنا إلى هذا الاتفاق بعد جدل وشد وجذب بين الطرفين اضطر معه الجمهوريون إلى قبول رفع السقف للمديونية، وقبلت بموجبه الإدارة الأميركية الديمقراطية بتخفيض النفقات بمقدار (136) مليار دولار من الموازنة المقررة.
والسؤال الذي نطرحه هنا للنقاش: هل كان التحذير من كارثة اقتصادية جزءاً من عملية التفاوض بين الحزبين، أم أنها حقيقة؟ ما هو الجانب الفقاعي في هذه التصريحات، وما هو الجانب الحقيقي؟
الحزبان الأميركيان، الجمهوري والديمقراطي، يقفان الآن على بوابة الحملة الانتخابية القادمة لتحديد من سيفوز في انتخابات الرئاسة عام 2024، ومن سيحظى بالأكثرية من بين حكام الولايات وأعضاء مجلس الشيوخ وأعضاء مجلس النواب.
وبحسب القانون الأميركي فإن الانتخابات التي تجري كل سنتين ينتخب فيها ثلث أعضاء مجلس الشيوخ، وكل أعضاء مجلس الممثلين، وعدد كبير من حكام الولايات. أما الانتخابات الرئاسية فتجري مرة كل أربع سنوات في السنة الكبيسة. ويعول الطرفان كثيراً على الفوز فيها.
ولهذا، فإن الخلاف حول من سيقدم تنازلات للآخر عند التفاوض على رفع الزيادة في المديونية سيؤثر بدرجة مهمة على نتائج الانتخابات التنفيذية والتشريعية والقضائية، سواء في كل ولاية تحديداً أم على مستوى الولايات المتحدة بأكملها.
ولهذا، يسعى كل طرف ليلقي باللوم على الطرف الآخر، وأن يظهر أنه انتصر في معركة التفاوض حول الموازنة. وبالطبع، فإن التنازلات (خفض المخصصات عن بعض القطاعات) سيؤثر على الولايات بدرجات متفاوتة. ولهذا ترى الممثلين أو الشيوخ الذين يأتون من الولايات الأكثر تضرراً من التنازلات قد صوتوا ضد مشروع الاتفاق على رفع سقف الدين العام بغض النظر عن انتمائهم الحزبي.
ولهذا رأينا أن (71) عضواً من الجمهوريين ذوي الأغلبية و(36) من الديمقراطيين صوتوا ضد مشروع القانون، وحصل أمر مماثل في مجلس الشيوخ. وقد أنذرت مؤسسات التقييم المالية العالمية مثل فيتش بأنها سوف تقوم بتخفيض تقييمها لأهلية الولايات المتحدة للاقتراض إذا فشلت الإدارة في الوصول إلى اتفاق لإلغاء السقف على الدين العام والسماح بتجاوزه، لأن هذا كان يعني أن خزينة الولايات المتحدة لن تتمكن يوم الخامس من يونيو/ حزيران (الموافق الاثنين الماضي) من الوفاء بسداد ديونها، ما يجعلها في حالة مخالفة لشروط السداد في مواعيدها.
ولو حصل ذلك لزاد من حجم الضغوط على الدولار، ولرأينا الدولار يتراجع، ما سيدفع البنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) إلى رفع سعر الخصم على ديون البنوك، من أجل الحد من الآثار التضخمية لهبوط سعر صرف الدولار أمام العملات الدولية الأخرى. وهذا يحصل في ظروف غير مواتية للولايات المتحدة على المستوى الدولي.
فمن الواضح مثلاً أن مجموعة (بريكس) تسعى الآن على المكشوف لتنويع العملات الدولية القابلة للتمويل أملاً في إزاحة الدولار عن عرش التفرد بهذا الدور. وقد بدأت بريكس في إنشاء مؤسسات رديفة لكل من البنك الدولي، وبنك التسويات الدولي، وترتيبات الدفع بعملات غير الدولار، وغيرها. ويمثل هذا السلوك الذي تختطه (بريكس) أكبر تحد مالي ونقدي تواجهه الولايات المتحدة. والظرف غير المواتي الثاني هو فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدورة رئاسية جديدة مدتها خمس سنوات. وقد قام بإعادة تشكيل الحكومة، ووضع رجالات يقبلون سياساته وتوجهاته.
ولو عرفنا حجم الإنفاق الذي بذل لإسقاطه لصالح خصمه من العلمانيين لانبهرنا، ولو تابعنا الحرب الإعلامية الشرسة ضده لقدرنا أن فوزه لم يكن بالأمر السهل. والأمر الثالث هو اتباع الصين لسياسات عسكرية متحدية للغرب والناتو والولايات المتحدة في المحيط الهادئ. وقد شهدنا خلال الفترة الماضية حجم المناكفات والمناطحات بين أسلحة الطيران والبحرية، وعن المناورات العسكرية، وعن تزويد تايوان بالسلاح. ولولا فشل إطلاق صاروخ التجسس الكوري الشمالي، لبدت الولايات المتحدة والناتو في حالة أكثر عسراً مما هي عليه.
وكذلك، رأينا أن الولايات المتحدة قد بذلت جهوداً كبيرة من أجل تخفيض سعر النفط عن طريق زيادة الإنتاج، والطلب من كندا ومنتجين آخرين فعل ذلك. ولكن اجتماع تحالف (أوبك+) الذي عقده وزراء النفط في المجموعة في فيينا لأول مرة شخصياً وليس افتراضياً منذ اندلاع فيروس كوفيد-19 قد أتى بنتائج غير مرضية للولايات المتحدة وحلفائها.
ومع أن وزراء النفط تباحثوا يوم الثالث من هذا الشهر حول خفض كمية الإنتاج من النفط، إلا أنهم يواجهون كذلك تحدياً ماثلاً في أن عرض النفط متقلب، والطلب عليه في ظل تراجع معدلات النمو غير واضح المعالم. ولهذا، فإن أي تخفيض يؤدي إلى رفع الأسعار إلى ثمانين دولاراً أو أكثر قد يؤدي إلى زيادة العرض وتراجع الطلب. وبسبب الظروف السياسية، والحروب، واشتعال الحرب الباردة، واستمرار حرب أوكرانيا بدون أمل في حل قريب كما السودان، فإن تحالف (أوبك+) سيجد أن خفض الإنتاج ربما ينطوي على نتائج سلبية.
ومع هذا، فإن تقريراً لوكالة رويترز قد أكد أن نسبة الخفض ستكون حوالي (1.16) مليون برميل في اليوم. ويتوقع أن يؤدي هذا الأمر إلى زيادة السعر بمقدار (2-4) دولارات، علماً أن بعض أعضاء التحالف كانوا يطالبون بتخفيضات تفوق (3 ملايين برميل يومياً). وبحسب التقديرات، فإن مثل ذلك القرار كان سيرفع سعر النفط إلى حدود (90) دولاراً (خليط برنت).
وبالفعل قرر الوزراء زيادة تخفيض الإنتاج بمقدار (1.6) يومياً، ما أدى إلى رفع سعر برميل النفط بدولارين مساء الأحد الماضي. وبغض النظر عما قرره أعضاء تحالف أوبك الثلاثة والعشرون، إلا أنهم أبدوا استقلالية عن ضغوطات الولايات المتحدة ورغباتها في هذا المجال. والسياسة الخارجية التي يتبعها أنتوني بلينكن الأميركي بصفته المسؤول عنها ستكون موضع تساؤل كبير لأنه ميال إلى التفاوض والبحث عن حلول تفاوضية.
ولكن الصقور في الحزبين الديمقراطي والجمهوري ليسوا راضين عن ذلك، ورفْضُ وزير دفاع الصين اللقاء مع نظيره الأميركي انطوى على خيبة أمل واضحة. وبناء عليه، فإن السؤال الكبير يبقى: هل ستقبل الولايات المتحدة بالوضع الحالي حيث كثرت عليها التحديات، أم أنها ستلجأ إلى وسائل العنف والانقلابات دفاعاً عن كل ما هو رمز لقوتها مثل الدولار، والتكنولوجيا، والتحكم في الأسعار العالمية للسلع الاستراتيجية؟
وإذا استمر الدين الأميركي في الارتفاع على مستوى الدين السيادي (قروض الحكومة) وعلى مستوى المديونية الخاصة، والتي تقدر بأنها تبلغ أكثر من (30) تريليون دولار تمثل الديون على بطاقات الائتمان وقروض التعليم، وقروض الاسكان، وقروض الشركات من البنوك والمؤسسات المالية، فإن هذا سيشكل بحد ذاته تحدياً واضحاً، وسيكون المؤشر الأساس لتوجهات السياسة الأميركية في مجالات السياسة والحرب والسلام والاقتصاد والمال. أيام مثيرة بكل معنى الكلمة تنتظرنا، وكان الله في عون الدول التي تناضل لأجل لقمة العيش.