اتفاق الحبوب.. للتعنُّت الروسي أسبابه

21 يوليو 2023
أصبحت ناقلات الحبوب في خطر داهم بعد سحب موسكو الضمانات الأمنية للشحن البحري (Getty)
+ الخط -

في ظلّ توالي الضربات الخارجية والطعنات الداخلية، يستخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أوقع نفسه بمأزق، ما تبقَّى لديه من أدوات محدودة لتحقيق أهدافه الأساسية من الغزو لأوكرانيا.

فلم تكتفِ روسيا باستخدام سلطتها في الأمم المتحدة وتحديداً حقّ النقض "الفيتو" لوقف تدفُق المساعدات الإنسانية من تركيا إلى شمال غرب سورية، وقطع مساعدات الأمم المتّحدة التي تُعدّ شريان الحياة لأكثر من 4 ملايين سوري يعيشون في مناطق خارج سيطرة الحكومة، والوقوف في وجه عملية الإغاثة التي استمرَّت تسع سنوات، بل رفضت تجديد اتفاقية الحبوب التي أبرمتها مع تركيا والأمم المتّحدة وأوكرانيا، وانسحبت بشكل رسمي من هذا الاتِّفاق الذي سمح لأوكرانيا بتصدير 33 مليون طن متري من الحبوب والمواد الغذائية منذ 1 أغسطس/ آب 2022، وأيضاً تصدير الأسمدة عبر البحر الأسود تحت ذريعة التصدِّي للاستغلال الأوكراني للممرّ البحري المُخصّص لتصدير الحبوب لأغراض عسكرية.

لاحظ المتتبِّع للأحداث إصرار روسيا على اتِّخاذ قرارين خطيرين في الوقت ذاته، حيث يتعلَّق الأوّل بالانسحاب من اتِّفاق الحبوب وحلّ مركز تنسيق الصادرات الأوكرانية في إسطنبول من أجل انتزاع عدّة تنازلات تحت تهديد سلاح الغذاء وفزّاعة الجوع وتجفيف خزينة كييف مع بدء موسم الحصاد، وسكب المزيد من الزيت على نار التضخُّم في أوروبا، وبدء العدّ العكسي لحدوث أزمة غذاء عالمية غير مسبوقة.

وذلك بينما يهدف القرار الروسي الثاني إلى قطع حبل المساعدات عن شمال غرب سورية الخاضع لسيطرة المعارضة المدعومة من تركيا من أجل تجويع تلك المناطق وحرمانها من الموارد حتى يتمكَّن نظام بشار الأسد من استعادة السيطرة عليها مجدَّداً.

ولم يكن غريباً على المتتبِّع للأحداث تزامن القرارات الروسية مع تخلِّي تركيا عن معارضتها لانضمام السويد إلى حلف الناتو وإدارة ظهرها للكرملين في محاولة لكسب ودّ الرئيس الأميركي جو بايدن ذي الحسابات البراغماتية والعقيدة الميكافيلية.

فقد أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ في 10 يوليو/ تمّوز عن موافقة تركيا على إحالة طلب السويد الانضمام للحلف إلى البرلمان التركي، وكانت هذه الخطوة مُتوقَّعة إلى حدٍّ ما رغم مرور بضعة أسابيع على سماح الشرطة السويدية بحرق نسخة من القرآن الكريم نظراً للمصالح الأخرى التي ترغب أنقرة بتحقيقها، مثل شراء مقاتلات "إف-16" بقيمة 20 مليار دولار من الولايات المتّحدة، عدم توفير الحماية للمعارضين الأكراد، فتح الأبواب للاستثمارات التركية، ولمَ لا، إعادة النظر في المقايضة الأردوغانيّة عالية السقف المتمثِّلة في فتح أبواب حلف الناتو للسويد مقابل انضمام تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي في المستقبل المنظور.

في 17 يوليو/ تمّوز، فوجئ المتتبِّع للأحداث باعتراف كييف بتدمير جسر مضيق كيرتش الاستراتيجي الذي يربط شبه جزيرة القرم المسلوبة من أوكرانيا منذ عام 2014 بالبرّ الرئيسي لروسيا، ليتبدَّد ما كان لديه من أمل بشأن تراجع روسيا عن إصرارها على الانسحاب من اتِّفاق الحبوب.

إذ يُعتبر هذا الجسر الذي أنفق عليه الرئيس الروسي بوتين حوالي 3.7 مليارات دولار من أجل تشييده إنجاز القرن في نظر وسائل الإعلام الروسية الحكومية، كما يُشكِّل شرياناً رئيسياً للخدمات اللوجستية للجيش الروسي.

في الواقع، يعتبر الهجوم الأوكراني على هذا الجسر الذي لطالما تفاخر به بوتين القطرة التي أفاضت الكأس وفاقمت حدّة ردّ فعل روسيا التي تسعى الآن إلى تحقيق غاياتها المعلنة والخفيّة وتعزيز نفوذها باستخدام كلّ نقاط قوَّتها.

وفي ظلّ تضاؤل الخيارات وانكماش الموارد، يراقب المتتبِّع لأحداث مسلسل الحرب الروسية - الأوكرانية ردود فعل الرئيس بوتين الذي لا يسعه الآن إلا التصعيد في معركة ليّ الذراع من أجل الإفلات من الهزيمة، لا سيَّما بعد ظهور بعض التصدُّعات الداخلية للعلن في 23 و24 يونيو/حزيران الماضي، جرّاء تمرُّد مجموعة فاغنر بأوامر من قائدها يفغيني بريغوجين، وانسحابها من جبهات القتال في أوكرانيا وزحفها نحو موسكو، الأمر الذي اعتبره الرئيس الروسي بوتين طعنة في الظهر وخيانة داخلية ومقدِّمة لحرب أهلية في بلاده.

إلى جانب هذه الأسباب التي تحرِّك قرارات بوتين الأخيرة، ثمة مطالب أخرى للكرملين يرفضها الغرب رفضاً قاطعاً، مثل تخفيف العقوبات المفروضة على الصادرات الزراعية لروسيا، إعادة ربط البنك الزراعي الروسي المملوك للدولة "روسلخوزبنك" بنظام سويفت العالمي للتحويلات المالية، إلغاء تجميد أصول الشركات الروسية، رفع القيود المفروضة على التأمين البحري وتوريد الآلات الزراعية وقطع الغيار، واستئناف عمل خط أنابيب الأمونيا الذي يعبُر أوكرانيا.

لم يعد خافياً على المتتبِّع لمسلسل الحرب الروسية - الأوكرانية، الذي تتسارع أحداثه في العام الثاني من بدايته، مدى الارتباط بين صراع القوى الكبرى وانعدام الأمن الغذائي وارتفاع الأسعار عالمياً.

من جهة، تحاول روسيا درء اللوم عنها وتبرير قراراتها بضرورة الردّ على العقوبات المفروضة عليها من قبل المجتمع الدولي، وتؤكِّد استعدادها لإمداد الدول المحتاجة والنامية بالحبوب مجّاناً، وهذا ما سيعكف الكرملين على مناقشته مع شركائه الأفارقة خلال القمّة الروسية - الأفريقية المُقرَّر عقدها في الفترة من 27 إلى 28 يوليو/ تمّوز في سانت بطرسبرغ، شمال غربي روسيا.

ومن جهة أخرى، يتنصَّل الغرب من مسؤوليته في تغذية الصراع الروسي - الأوكراني واستفزاز الكرملين ويبطن رغبته بتصفية روسيا ورئيسها ويعلن نقيض ذلك.

خلاصة القول، يقف العالم الآن بسبب الغرب المتغطرس الذي ربّما لا يزال يعيش نشوة الانتصار في الحرب الباردة على شفا حرب نووية ومجاعات غير مسبوقة وفقر مدقع واسع النطاق ودمار بيئي. بات المتتبِّع لمسلسل الحرب الروسية - الأوكرانية يتوقَّع ارتفاع مستوى الأسعار إلى حدّ يفوق قدرته على التحمُّل، لكن الأدهى والأمرّ من ذلك أنّ أحدث حلقات هذا المسلسل، التي شهد فيها المتتبِّع تسليم كييف ذخائر عنقودية أميركية تحوي اليورانيوم المنضب والمصنَّفة ضمن أسلحة الدمار الشامل، لا توحي بحدوث مجاعة عالمية في القريب العاجل بقدر ما توحي بنشوب حرب نووية يروح ضحيتها ملايين الأبرياء وتدفع فيها الدول التي لا ناقة لها في هذه الحرب ولا جمل ثمناً باهظاً من مواردها وأرواح شبابها.

المساهمون