إلغاء اتفاقية الحبوب ومصير خبز الفقراء

18 يوليو 2023
سفينة شحن تنقل الحبوب عبر الممر الآمن من ميناء أوديسا الأوكراني (getty)
+ الخط -

تصاعدت أسعار الحبوب الغذائية عالمياً في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية كنتيجة طبيعية لاحتلال أوكرانيا المركز الخامس في تصدير الحبوب وفي مقدمتها القمح عالمياً، وبعد شهر واحد فقط من اندلاع الحرب في 25 فبراير/شباط 2022 تراكم في الموانئ الأوكرانية ما يقارب 20 مليون طن من الحبوب التي لا تجد منفذاً للتصدير نحو الدول المتعطشة إليها.

لكن سرعان ما تراجعت الأسعار بعد نجاح المفاوضات التركية متعددة الأطراف في إبرام اتفاقية الحبوب والتي تُعرف كذلك باتفاقية البحر الأسود، وهي الاتفاقية التي ضمنت استقرار صادرات الحبوب الأوكرانية إلى مختلف بلدان العالم في مقابل ضمانات للصادرات الروسية بالنفاذ هي الأخرى نحو العالم، وذلك على الرغم من سلسلة العقوبات الاقتصادية الفادحة التي فرضتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي على روسيا في أعقاب الحرب.
وخلال الأيام الأخيرة، صدرت عدة تصريحات عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مفادها أنّ روسيا تدرس الانسحاب من اتفاقية "مبادرة حبوب البحر الأسود" لتصدير الحبوب، بخاصة أنّ أوكرانيا تستخدم الممر لتنفيذ هجمات بطائرات مسيّرة، وأنّ هذا الانسحاب سيكون بمجرد انتهاء مدة الاتفاقية والمقرر اليوم الثلاثاء 18 يوليو/تموز، ولن تسمح موسكو بالتجديد كما فعلت في المرات السابقة إذا لم تتم تلبية مطالبها بصورة حقيقية.
كما قدم مسؤولون روس أسباباً أخرى لعدم موافقة موسكو على تجديد الاتفاق؛ منها تلكؤ الغرب في تخفيف العقوبات بخاصة على القطاع المالي والمصرفي الروسي، واستمرار منع البنوك الروسية من نظام شبكة السويفت الدولية، وعدم وصول القمح الأوكراني للدول الفقيرة والنامية ووصوله للدول الغنية ومنها بعض الاتحاد الأوروبي.
وفي مطلع يونيو/حزيران الماضي، أعلن نائب وزير الخارجية الروسية، سيرغي فيرشينين، بعد اختتام محادثات بين روسيا والأمم المتحدة في جنيف أنّ القرار بشأن تمديد اتفاقية إسطنبول للحبوب سيتم اتخاذه على أساس مصالح روسيا، وأن روسيا لا تزال تشعر بخيبة أمل بسبب عدم تنفيذ مذكرة التفاهم المبرمة مع الأمم المتحدة في إطار الاتفاقية، بخاصة تلك البنود المتعلقة بتصدير المنتجات الزراعية الروسية، كما أنّ الأمم المتحدة بالرغم من جهودها لم تتمكن من إقناع الأوروبيين بإعادة بنك "روس سيلخوز بنك" الروسي إلى نظام "SWIFT" الدولي للمدفوعات وفقاً للوزير الروسي.

وطبقاً لبنود الاتفاقية، فإنّ روسيا قد طالبت بخمسة مطالب أساسية كشروط لموافقتها على السماح بعودة صادرات الحبوب الأوكرانية نحو العالم، من بينها إعادة ربط البنك الزراعي الروسي بنظام (سويفت)، وتوريد قطع الغيار اللازمة للزراعة الروسية، وإلغاء حظر لوجستيات النقل والتأمين، وإعادة إحياء خط أنابيب الأمونيا "تولياتي - أوديسا"، وإلغاء تجميد أصول الشركات الروسية.

وأكدت وزارة الخارجية الروسية فى مايو/أيار الماضي أنه في حال عدم الوفاء بهذه المطالب، فلن يكون هناك أي توسيع لمبادرة البحر الأسود وسيتم وقف العمل بالاتفاقية بعد 17 يوليو الجاري.

التهديدات الروسية بالانسحاب لا تتوقف
التهديد الروسي الأخير بالانسحاب من الاتفاقية سبقه العديد من التهديدات والتي بلغت حد الانسحاب الفعلي، وتوقّف العمل بها في 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 2022 على خلفية تفجير الجانب الأوكراني لجسر القرم والذي أشارت التحقيقات التي أجرتها الإدارة الروسية إلى أن المتفجرات كانت محمولة في إحدى شاحنات الحبوب الأوكرانية، فضلاً عن استهداف السفن الروسية بطائرات الدرون في ميناء سيفاستوبول في 29 أكتوبر عام 2022 والتي كانت ضمن الأسطول المشارك في اتفاق نقل الحبوب، إذ اشارت التحقيقات الروسية كذلك إلى أن تلك الطائرات خرجت من أوديسا باتجاه القرم وذلك عقب إجراء لجنة تحقيقات توصلت لذلك عقب جمع حطام الطائرات المنفذة للهجوم.
وتراجعت روسيا عن قرارها بتعليق الاتفاقية في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 عقب مباحثات بين كلا الجانبين التركي والروسي والتي أسفرت عن إعطاء الجانب الروسي ضمانات جديدة تضمن عدم التعرض لأسطولهِ أو المساس به، كما أرسلت أوكرانيا تعهدا كتابيا للحكومة الروسية بعدم استخدام الممر الآمن في العمليات العسكرية.
وقد عادت المباحثات حول تفعيل زيادة مدة سريان العمل بذلك الاتفاق عقب اجتماعات مشتركة عقدت بعد وصول أمين عام الأمم المتحدة إلى أوكرانيا لبحث تمديد اتفاق بشأن الحبوب، وتوصل مع الرئيس الأوكراني لاتفاق بشأن تمديد الاتفاق، وعليها سعت تركيا كوسيط وطرف لإقناع روسيا بشأن تمديد الاتفاق في 13 مارس/آذار 2023.

عندها، أعلنت الخارجية الروسية موافقتها على تمديد الاتفاق لمدة 60 يوماً فقط بدلاً من 120 يوماً، على أن ينتهي العمل بها في شهر مايو/أيار 2023، ثم مددت إلى 17 يوليو الحالي، وذلك لحين النظر بشأن تمديدها مرة أخرى، على أن يكون تمديد الاتفاقية وفقاً للشروط التي سبق الاتفاق عليها والتي لم تنفذ بالصورة المرضية وفقا لوجهة النظر الروسية.

سيف روسي فوق رقاب الدول الفقيرة
لا يوجد لأوكرانيا منفذ لتصدير الحبوب نحو العالم بخاصة الدول الفقيرة منه عندما يحين إيقاف العمل بالاتفاقية، لكنّ الدول الفقيرة ستكون الأكثر تضرراً ليس فقط على صعيد توقف الإمدادات الأوكرانية، لكن أيضاً من الصعود المتوقع للأسعار جراء هذا التوقف، فضلاً عن اضطرار تلك الدول للبحث عن أسواق إمدادات بديلة حتى لو بأسعار مرتفعة مقارنة بالقمح الأوكراني الرخيص.

وعلى الرغم من تأكيد الرئيس الروسي استعداد موسكو لتصدير الحبوب إلى البلدان الأكثر فقرا بشكل مجاني، وإشارته إلى أنه سيتم بحث هذا الموضوع مع قادة الدول الأفريقية وكيفية التصرف في ذلك، إلا أن توقف الإمداد يعني أضرارا فادحة للدول الفقيرة لن تستطيع مواجهتها بسهولة، خاصة في ظل سقوطها في براثن أقساط وفوائد ديون خارجية تعجز مواردها المحلية عن الوفاء بها.
بالطبع، انتهى العمل بالاتفاقية رسمياً، ولا تزال مشاورات التمديد متعثرة حتى الآن، وحتى لو نجحت تركيا في الوساطة لتمديدها شهرين جديدين أو أكثر سيبقى السيف الروسي فوق رقاب الدول الفقيرة ومن بينها الدول العربية المستوردة للقمح والحبوب، ومن الواجب هنا لفت الانتباه إلى ضرورة التعلم من هذا الدرس الهام.
لا تنقص الدول الفقيرة الأفريقية والعربية الموارد اللازمة للنهوض بالقطاع الزراعي بصفة عامة وإنتاج الحبوب الغذائية على وجه الخصوص، إذ تفتقد هذه الدول فقط الإرادة السياسية والعمل الدؤوب نحو الاستقلال والهروب من فخ التبعية الغذائية، ويبقى تأخر العمل الجاد على هذا النهوض إيذاناً ببقاء مصير خبز الفقراء مرحلياً تحت رحمة روسيا وبصفة عامة تحت رحمة الدول المنتجة والمصدرة.

المساهمون