تسود أجواء من القلق في أوساط الاقتصاديين والمنتجين في السودان. البلاد التي كانت موعودة بإعفاء من الديون الخارجية والحصول على قروض ومنح، عادت إلى نقطة الصفر بعد الانقلاب العسكري، فيما أعطت الدول الكبرى الخرطوم موعداً ينتهي هذا الشهر للعودة إلى المسار المدني في انتقال السلطة، وإلا إلغاء اتفاقات إعفاء الديون.
يأتي ذلك في ظل مخاوف من ارتفاع كلفة الديون مع تصاعد الفوائد عالمياً. فقد تم تعليق برنامج إعفاء الديون السودانية وكل اتفاقيات نادي باريس وأصدقاء السودان التي وقعت في 17 أيار/ مايو 2021، كذا توقفت الوعود التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن بلاده قررت شطب كامل الديون المستحقة على السودان والتي تبلغ نحو خمسة مليارات دولار، "بهدف تحرير هذا البلد الذي يشهد انتقالا ديمقراطيا من عبء الدين".
وكانت باريس تستعد لتقديم قرض للخرطوم بقيمة 1,5 مليار دولار لمساعدتها في تسديد متأخراتها من الديون لصندوق النقد الدولي. وأكد نادي باريس أنه بعد عزل القوات العسكرية للحكومة الانتقالية في السودان، تم تعليق التوقيع على الاتفاقيات الثنائية المنفذة لاتفاقية الإعفاء من الديون متعددة الأطراف إلى أن يتحسن الوضع ويستأنف تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي.
ورأى اقتصاديون أن الانقلاب الذي نفذه قائد الجيش السوداني في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 أدى إلى تجميد إعفاء الديون وإحجام المجتمع الدولي عن تقديم المساعدات الموعودة.
تجميد القرارات
ونجح السودان بعد سنوات من العزلة بإعادة علاقاته المتوازنة مع المؤسسات الاقتصادية الدولية العام الماضي، حيث تم الشروع في إعفائه من قرابة 50 مليار دولار من ديونه عقب تطبيق روشتة صندوق النقد الدولي، التي قضت بفرض إجراءات قاسية أبرزها تحرير تامّ لأسعار الوقود والجنيه والدولار الجمركي.
وفي أبريل/ نيسان من العام نفسه قرر البنك وصندوق النقد الدوليان أن السودان بات مؤهلًا للإعفاء من الديون الخارجية تحت برنامج إعفاء الدول الفقيرة المثقلة بالديون "هيبيك"، وبالفعل حصل السودان على موافقة لإعفاء 23.5 مليار دولار من ديونه البالغة 55 مليار دولار، ليصبح الدولة رقم 38 التي تحصل على إعفاء الديون في إطار المبادرة.
وسبق أن أعلنت مجموعة نادي باريس إلغاء 14.1 مليار دولار من ديون المجموعة على السودان، إضافة لإعادة جدولة بقية الدين (9.5 مليارات دولار) إلى حين الوصول إلى نقطة الإكمال، مع التوقف عن سداد خدمة الدين خلال هذه الفترة.
ولكن انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان أعاد البلاد إلى نقطة الصفر بعد أن جمّدت الدول الدائنة برنامج الإعفاء، ولوّح المجتمع الدولي بوقف المنح والمساعدات، وأمهل البنك الدولي السودان حتى يونيو/ حزيران 2022 للتوصل إلى حل للأزمة السياسية والعودة لمسار الانتقال المدني الدولي، وإلا فستلغى خطة لإعفاء ديونه الخارجية.
تمسك بالسلطة
البلد الأفريقي لم يصل إلى اتفاق يرضي المجتمع الدولي حتى اليوم، حيث ظل قائد الجيش السوداني متمسكا بالسلطة في وقت لا زالت القوى السياسية متخاصمة ولم تصل إلى توافق فيما بينها رغم المبادرات التي قامت بها قوى مجتمعية، آخرها المبادرة الأممية التي يقودها فولكر بيرتس المبعوث الاممي إلى السودان وابتداع آلية ثلاثية لحل المشكل السوداني والتي بدورها توقفت نتيجة لتراجع قوى الحرية والتغيير (مجموعة أحزاب معارضة للانقلاب) ورفضها للمبادرة والحوار مع المؤسسة العسكرية.
ورأى الخبير الاقتصادي الفاتح عثمان في حديث مع "العربي الجديد" أن تعليق قرارات إعفاءات الديون مستمر إلى أن تأتي حكومة توافق سياسي ذات مصداقية. وأكد أن السودان لا يتلقى قروضاً من المؤسسات المالية الدولية منذ عام 1981 لكونه عاجزا عن سداد أقساط الديون الخارجية، لكنه ظل يتلقى قروضا من المؤسسات المالية الإسلامية والعربية ولا زال هذا ممكناً.
وقال إن اعفاء الديون الخارجية السودانية ضروري للاندماج في السوق والاقتصاد العالمي ولقدوم الاستثمار الأجنبي للبلاد، لكن الاقتصاد السوداني باق حالياً في المسار ذاته الذي كان يعيشه منذ أربعين عاماً تقريباً. وانتقد أستاذ الاقتصاد بالجامعات السودانية محمد الناير في حديث مع "العربي الجديد" الوعود التي لم يتم الإيفاء بها.
واعتبر أن من المعلوم أن الغرب حينما يرسل الأموال إلى أوكرانيا فإنما هذا يحصل لأهداف سياسية، ولكن في المنطقة العربية لا يفي بوعوده، وهنالك تجارب سودانية قبل انفصال دولة جنوب السودان حيث التزم المجتمع الدولي بخمسة مليارات دولار، ولم يدفعها.
لكن وزير المالية السوداني الأسبق الدكتور إبراهيم البدوي، دعا للتفكير في أسباب الانقلاب ومقارنتها بشروط البنك وصندوق النقد الدولي لإعفاء الديون والتي شملت بعض القرارات المتعلِّقة بالوضع الداخلي حيث نصت الفقرة 26 من الإصلاحات الهيكلية الواجب تنفيذها في إعفاء الديون وإعادة إطلاق الصرف التنموي، على ضرورة مكافحة الفساد وتحسين الحوكمة وهي من الأولويات الرئيسية، بجانب إنشاء لجنة مستقلة لمكافحة الفساد وقانون جديد لذات الغرض.
تأهيل الاقتصاد
وأيضاً من الشروط المتفق عليها بين السودان والمؤسسات المالية الدولية والدائنين، التطبيق الكامل للقانون الذي تمت إجازته في العام 2020 والذي ينص على التفكيك الكامل لمؤسسات النظام السابق وتقديم الأفراد المتهمين بالاعتداء على المال العام للمحاكم أيضاً نشر قائمة بالشركات المملوكة للدولة وقطاع الأمن.
وأكد البدوي خلال ندوة بثت عبر فيسبوك، أن من أسباب الردة السياسية التي حدثت بالانقلاب العسكري عدم رغبة الانقلابيين في مواصلة برنامج الإصلاح المؤسسي بما في ذلك لجنة إزالة التمكين التي كان من المفترض دعمها بلجنة قانونية لمكافحة الفساد.
وقال البدوي أن اللقاء الذي جمع المدير التنفيذي للبنك الدولي مع رئيس الوزراء السوداني آنذاك عبد الله حمدوك، أكد على أن السودان سيكون من أكبر الدول الأفريقية المستفيدة من الدعم المالي للصندوق والبنك الدولي بعد التأهيل، وأشار إلى وجود خطة لتأهيل البنى التحتية من مطارات، وطرق وسكة حديد، للربط مع دول الجوار بما يساهم في جذب الاستثمارات الخارجية.
وأوضح البدوي أن المساعدات التي كان من المفترض أن تصل للسودان تشمل 2.5 مليار دولار خلال عامين للموازنة يدفع منها صندوق النقد الدولي ملياري دولار دعماً للتوازن الخارجي، بجانب الدعم من الشركاء (مؤتمر برلين) لدعم أنشطة الحكومة الانتقالية بمبلغ مليار دولار منها 400 مليون دولار من البنك الدولي، وما تبقى من الشراكات الثنائية لتمويل برنامج دعم الأسر والتحول الرقمي.