في دول الخليج، هناك اعتماد كامل على النفط، وفشل في التنويع، فشل في التنبؤ، ضعف في التحوط، فشل في إدارة الدورة الاقتصادية (النفطية)؛ لا شفافية، لا رقابة، لا محاسبة، لا مسؤولية، بل سياسات ردود فعل توسعية إسرافية مع الفوائض، وانكماشية تقشفية وضريبية مع الركود، ما يطيل ويعمق أمد الركود.0
فدول مجلس التعاون تستخدم نصف سياسة مالية، وهي سياسة الإنفاق الحكومي في رد فعل موافق للدورة النفطية، أي توسع في الإنفاق مع الرواج وتقشف مع الانكماش، بينما تبقى السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف معطلتان بسبب الربط بالدولار، وهذا يضع ضغوطات على الاحتياطيات ويؤجج وضع الدورة الاقتصادية، أي يعمق الانكماش مع الركود، ويرفع التضخم في الرواج.
إن ضيق حيّز السياسات بسبب ربط عملات دول مجلس التعاون الخليجي بالدولار، يضع، من جهة، ضغوطا كبيرة على الاحتياطيات والصناديق السيادية للتعويض عن فشل السياسات في إدارة الدورة النفطية، ومن جهة أخرى يشكل ذلك عبئا إضافيا على الاحتياطيات لتثبيت أسعار الصرف، في حين المطلوب هو مزيج مرن ومعاكس للدورة النفطية من السياسات الثلاث: المالية، والنقدية، وسعر الصرف.
فمرونة سعر الصرف تساعد على امتصاص صدمات النفط وتنويع الاقتصاد، وتحرير السياسة النقدية، بحيث توجه نحو إدارة الدورة الاقتصادية المحلية، بينما يؤدي ربط العملات إلى شل السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف، وإبقاء الاحتياطيات عرضة للاستنزاف، والعملات عرضة للمضاربات أثناء الأزمات الاقتصادية والسياسية الحادة.
إن السماح لسعر الصرف بالانخفاض والارتفاع مع سعر النفط، يساعد على مواجهة تحديات الإنفاق العام عند انخفاض مداخيل النفط، وخفض معدلات التضخم عند ارتفاعها.
الروبل الروسي مقابل الريال السعودي
أعطى تعويم الروبل الروسي روسيا أفضلية على السعودية ودول الخليج في امتصاص صدمات النفط وتحمل انخفاضه لفترات أطول. ولو طال أمد الحرب النفطية بين روسيا والسعودية، لكان الخاسر الأكبر فيها هو السعودية. فروسيا تعلمت من تجارب انهيارات أسعار النفط السابقة، وعومت عملتها، في حين هناك إيمان شبه أعمى في دول مجلس التعاون بأن الربط بالدولار صالح لكل زمان ومكان.
فالدول ذات أسعار الصرف الثابتة تواجه تحديات أكبر في الإنفاق العام بسبب انهيار أسعار النفط، فإما أن تخفض الإنفاق، أو تسحب من الاحتياطات أو تقترض (لتمويل العجوزات)، والتي لا تستطيع فعل أي من ذلك ستكون في وضع صعب وستواجه تحديات كبيرة.
إن ربط العملات يضع تحديات مضاعفة على دول المجلس. فمن جهة تُستنزف الاحتياطيات للتعويض عن فشل السياسات النقدية وسعر الصرف في مواجهة انهيار أسعار النفط، بسبب الشلل الذي يحدثه ربط العملات، ومن جهة أخرى يتم تحييد جزء كبير من الاحتياطيات جانبا للدفاع عن أسعار الصرف الثابتة.
ومستويات الاحتياطيات من الصرف الأجنبي منخفضة في البحرين (على وجه الخصوص)، ما يهدد بضغوطات على الدينار البحريني مجددا، وبأزمة سعر صرف ربما تطاول سلطنة عمان لتشابه الظروف. حينها تكون العدوى قابلة لتطاول أعضاء آخرين في منظومة الربط الخليجية بالدولار، كالسعودية مثلا.
الصناديق الخليجية الأقل شفافية
إن التطور الوحيد الذي حققته دول المجلس منذ طفرة النفط الأولى في سبعينيات القرن الماضي هو في جانب بناء صناديق التحوط (السيادية)، ولكن هذا لا يكفي، فستتآكل هذه الاحتياطيات في ظل الفشل في التنويع، وفِي إصلاح هيكل إدارة الاقتصاد الكلي، بتبني نظام سعر صرف وسياسة نقدية أكثر مرونة، ويسمح بتوجيههما نحو إدارة الدورة النفطية وتنويع الاقتصاد المحلي.
ولا تزال الصناديق السيادية الخليجية بحاجة للكثير من الإصلاح والتطوير. فهي الأقل شفافية حول العالم، إذ لا يعرف ما يدخلها ولا ما يخرج منها، ولا كيف تدار، ولا تخضع لمعايير المحاسبة والمسؤولية، كما أن أحجامها أصغر مما يفترض أن تكون عليه مقارنة بالمداخيل الهائلة التي تحققت لدولها خاصة أثناء الطفرة النفطية الأخيرة.
لماذا فشل التنويع الاقتصادي؟
فشِلت دول الخليج في تنويع اقتصاداتها (عبر الطفرات النفطية المتعاقبة) لسببين: الوفرة الاقتصادية (الموارد الطبيعية الهائلة)، والكلفة السياسية، فالتنويع الاقتصادي قرار سياسي وليس اقتصاديا، وله متطلبات (إصلاحات) اقتصادية وكلفة سياسية، ولذلك هو بحاجة لإرادة سياسية جازمة.
وعملية تنويع ناجحة ستقوض نموذج النمو الريعي الخليجي القائم على استقطاع الريع وإعادة توزيعه بما يتسق وتعظيم فرص البقاء في السلطة، وسيشكل ذلك تهديدا للنظام السياسي القائم للدولة الريعية الخليجية. فالتنويع ضد طبيعة الدولة الريعية الأوتوقراطية، لأنه يجردها من أهم مقومات بقائها وهي آلية توزيع الريع. ولن تنوع الدولة الريعية إلا مجبرة، أي عند كساد أو نضوب مواردها الطبيعية، أو لتحولات اقتصادية أو سياسية ضاغطة.
دورس في الرؤية والقيادة من قصة يوسف
إن أول شرط للقيادة وصنع السياسة هو توفر الرؤية. فلا بد أن تتوفر لدى صانع السياسة القدرة على تكوين رؤية مستقبلية، واستشراف لما يمكن أن يكون عليه المستقبل، ووضع سيناريوهات بأسوأ الاحتمالات لأزمات مستقبلية والإعداد لها بوضع الحلول المناسبة استباقيا.
فهذه هي وظيفة الدولة. وهذا يتطلب كفاءات قيادية وإدارية خلاقة مبدعة تستطيع تكوين رؤى مستقبلية، ورسم وتنفيذ سياسات سليمة بناء عليها.
فيجب أن تتوفر في من يقومون على الخدمة العامة والقطاع العام، من وزارات ومؤسسات، ووزراء ومسؤولين، القدرة على تكوين رؤى لقطاعاتهم واستشراف ما سيكون عليه المستقبل في مجالاتهم، ووضع الخطط المناسبة استباقيا للتحولات والأزمات المقبلة.
وهذا يتطلب كفاءات قيادية تستطيع استشراف المستقبل وتصميم السياسات المناسبة، وكفاءات إدارية تستطيع تنفيذها. وقد يجمع صانع السياسة بين الاثنين كما فعل سيدنا يوسف عليه السلام، أي بين التصميم والتنفيذ.
فالكفاءات القيادية والإدارية تستطيع جذب ومراكمة رأس المال البشري، وبناء القدرات والكفاءات الوطنية لأنها بحاجة إليها ولا تخاف منها. ولو خاف الملك من يوسف لما سعى إليه وأخرجه من السجن، وقلده أعلى المناصب، وأنقذ البلاد والعباد، وحافظ على استقرار مملكته.
ولتكوين رؤى واستشراف سليم للمستقبل، هناك حاجة لبناء القدرات البحثية على المستوى الوطني، وعلى مستوى المؤسسات والوزارات، والاهتمام بالباحثين والأبحاث والنشر العلمي والمهني، ومراكمة رأس المال البشري المتخصص، ولن يتم ذلك إذا كانت الإدارة ضعيفة وفاقدة للأهلية.
هدم رأس المال البشري
فالإدارة الضعيفة وغير المتمكنة تخاف من الكفاءات وتحاربها، وتعمل على تفريغ المؤسسة والوزارة منها لأنها ترى فيها مصدر منافسة أو تهديد لمصالحها ولبقائها وبقاء من يرثها في المنصب، وهذا يؤدي إلى هدم رأس المال البشري وإرسال رسائل خاطئة تحرف النشء عن بناء قدراته، وتؤدي إلى تدهور مخرجات القطاع العام وتآكله.
وعلى قدر كفاءة الإدارة في أي نظام ودولة، يتحدد سقف رأس المال البشري فيهما. فإدارة كفوءة تعطي سقفا مرتفعا، وإدارة ضعيفة تعطي سقفا منخفضا يحد من تكون رأس المال البشري، ورأس المال البشري هو العنصر الأهم، والتحدي الأصعب في أي عملية تنمية وتنويع اقتصادي.