خلال مرحلة التسعينيات، وفي الحقبة التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي، اندفعت معظم الدول النامية إلى التخلّي عن السياسات الحمائيّة، أو على الأقل التخفيف من هذه السياسات، التي لطالما حصّنت زراعاتها المحليّة وسائر قطاعاتها الإنتاجيّة.
ففي ذلك الوقت، تلقّت نظريّات السوق المفتوحة وتحرير التجارة الدوليّة زخمًا استثنائيًّا، بدفع وتشجيع من الدول الغربيّة الصناعيّة والمؤسسات الماليّة العالميّة، وفي طليعتها صندوق النقد الدولي.
وكما هو معلوم، امتلك الصندوق بالتحديد تأثيرًا مهمًّا على سياسات الدول النامية، من خلال خطط الإصلاح والتكييف الهيكلي، التي جرى فرضها على بعض هذه الدول كجزء من برامج الصندوق التمويليّة.
وفي تلك الحقبة بالتحديد، جاء تأسيس منظمة التجارة العالميّة عام 1995 كثمرة لهذا الزخم، فتحوّلت المنظمة إلى إطار للتفاوض في سبيل خفض أو إلغاء الرسوم الجمركيّة، وإزالة حصص التوريد وغيرها من الحواجز التجاريّة.
وفي المنطقة العربيّة بالتحديد، جاءت اتفاقيّات الشراكة الأورو-متوسطيّة لتدفع بنفس الاتجاه، من خلال فتح الأسواق باتجاه دول الاتحاد الأوروبي، وإلغاء الكثير من القيود والحواجز الجمركيّة بشكل متدرّج.
بالتأكيد، عانت أجزاء واسعة من المنطقة العربيّة من تدهور إنتاجيّة قطاعاتها الزراعيّة، جرّاء عدم قدرة الكثير من الزراعات المحليّة على منافسة السلع المستوردة، بعد تخطّي القيود الحمائيّة.
عانت أجزاء واسعة من المنطقة من تدهور إنتاجيّة قطاعاتها الزراعيّة، جرّاء عدم قدرة الكثير من الزراعات المحليّة على منافسة السلع المستوردة
وفي مقابل فتح دول المنطقة العربيّة أسواقها أمام السلع الأجنبيّة، ظلّ الإنتاج الزراعي المحلّي يواجه قيودا مشدّدة عند تصديره باتجاه الأسواق الغربيّة، ومنها دول الاتحاد الأوروبي، تحت عنوان معايير الجودة والمواصفات والمقاييس. بهذا الشكل، تم وضع القطاعات الزراعيّة المحليّة أمام معادلة خاسرة، ما زاد على المدى البعيد من اعتماد المنطقة العربيّة على استيراد الغذاء من الخارج.
بالرغم من أضرار هذا المسار على وضعيّة الأمن الغذائي العربي والاكتفاء الذاتي في المجال الزراعي، ظلّت المؤسسات الدوليّة تصرّ على صوابيّة هذا الاتجاه، من زاوية ضرورة تحقيق واستثمار "الميزات التنافسيّة".
وهذا الشعار كان يعني ببساطة التركيز على استفادة كل دولة من تخصّصها في إنتاج معيّن، بما يتلاءم مع الفرص التي توفّرها وضعيّتها الاقتصاديّة، بدل التصدّي لهواجس توفير الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائيّة الأساسيّة. وهذه الحجج ارتكزت على الرهان على تقليص الحواجز التجاريّة بين الدول إلى حدّها الأدنى، ما يهمّش تلقائيًا الهواجس المرتبطة بتوفّر الغذاء بشكل مستدام.
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، عادت هواجس الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي لتفرض نفسها على الدول العربيّة، ما يطرح السؤال مجددًا عن وضعيّة القطاعات الزراعيّة في هذه الدول، وعن سبل حمايتها وإنعاشها. كما بات من الضروري السؤال عن إمكانيّة تحقيق الحد الأدنى من التكامل بين الاقتصادات العربيّة، في سبيل تحقيق هذه الأهداف.
فتداعيات ظاهرة تغيّر المناخ والجفاف، ومنها شح المحاصيل الزراعيّة، باتت تدفع اليوم العديد من البلدان إلى اتخاذ إجراءات تقيّد صادراتها من المواد الغذائيّة. وهذا ما فعلته الهند، بحظرها تصدير الأرز الأبيض غير البسمتي في شهر يوليو/تمّوز الماضي.
مع الإشارة إلى أنّ الهند- وهي أكبر مصدّر للأرز في العالم- كانت توفّر تقليديًا 70% من إمدادات الأرز الأبيض غير البسمتي، منخفض الثمن، والذي تعتمد على استيراده في العادة الدول ذات الدخل المنخفض أو الدخل المتوسّط الأدنى.
وعلى خلفيّة الخشية من تناقص إمدادات المياه أيضًا، حثّت تايلاند- ثاني أكبر مصدّر للأرز- المزارعين لديها على الحد من زراعة الأرز، فيما حظر مجلس الوزراء الروسي تصدير هذه المادّة "حفاظًا على استقرار السوق المحليّة".
الهند- وهي أكبر مصدّر للأرز في العالم- كانت توفّر تقليديًا 70% من إمدادات الأرز الأبيض غير البسمتي، منخفض الثمن
وهكذا، باتت الأسواق تخشى أن تُطلق هذه التطوّرات سلسلة من القرارات الأخرى المشابهة، التي تحاول من خلالها الدول تقييد تصدير الأرز لحماية سلاسل الإمداد الغذائيّة لديها، ولو بقيود غير مباشرة مثل رفع رسوم التصدير أو شراء المحاصيل من السوق.
ولم تقتصر التهديدات التي تطاول سلاسل توريد الغذاء على تداعيات تغيّر المناخ وشح المحاصيل، بل باتت التهديدات الأمنيّة والتوتّرات العسكريّة تزيد من خطورة هذه الضغوط.
وعلى هذا النحو مثلًا، جاء قرار عدم التمديد لاتفاقيّة الحبوب في البحر الأسود، التي حيّدت سابقًا صادرات أوكرانيا من الحبوب عن ضربات الجيش الروسي. ومنذ ذلك الوقت، بات استهداف روسيا لصوامع الحبوب وموانئ التصدير ومراكز الإنتاج والشحن الأوكرانيّة خطرًا يهدد بحرمان العالم من إمدادات الحبوب الأوكرانيّة، التي كانت تؤمّن حاجة 400 مليون نسمة حول العالم من الحبوب.
وبمعزل عن كل هذه التطوّرات التي شهدها العالم أخيرًا، ثمّة عوامل أخرى ساهمت في الضغط على موازين العرض والطلب في الأسواق الغذائيّة العالميّة منذ عام 2021. فبعد انتهاء القيود التي فرضها تفشّي وباء كورونا في معظم الاقتصادات العالميّة، عادت معدلات الطلب العالمي على جميع السلع الأساسيّة للارتفاع، ومنها السلع الغذائيّة.
إلا أنّ سلاسل التوريد التي أصابها الضمور خلال مرحلة تفشّي الوباء، لم تكن مهيّأة لهذا الارتفاع السريع والمفاجئ في الطلب، وهو ما ساهم في تضخّم الأسعار على مرّ السنتين الماضيتين. مع الإشارة إلى أنّ ارتفاع أسعار المحروقات خلال الفترة نفسها ساهم بدوره في رفع كلفة إنتاج وشحن السلع الغذائيّة الأساسيّة، ما دفع الأسعار بنفس الاتجاه التصاعدي.
الملفت للنظر هو أنّ الدول الصناعيّة الكبرى، التي لطالما ضغطت على الدول النامية لتبنّي سياسات فتح الأسواق وتحرير التجارة، باتت هي نفسها تتجه أكثر فأكثر إلى السياسات الحمائيّة في قطاعي الغذاء والطاقة، سعيًا منها لتحقيق أمن الغذاء والطاقة في ظل التوترات الجيوسياسيّة.
خصصت الحكومة نحو 200 مليار يورو من موازنتها، لدعم أسعار الطاقة وحماية تنافسيّة قطاعاتها الإنتاجيّة
على هذا النحو مثلًا، جددت المفوضيّة الأوروبيّة في يونيو/حزيران الماضي القيود على استيراد القمح الأوكراني لبعض دول الاتحاد الأوروبي، لحماية زراعات القمح المحليّة في تلك الدول.
وفي ألمانيا، خصصت الحكومة نحو 200 مليار يورو من موازنتها، لدعم أسعار الطاقة وحماية تنافسيّة قطاعاتها الإنتاجيّة. وهذا ما فعلته الولايات المتحدة من خلال قانون خفض التضخّم، الذي هدف إلى تشجيع الاستثمار في مشاريع الطاقة المحليّة، وتقليص الاعتماد على الوقود المستورد. أمّا الحروب التجاريّة المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة، فباتت سيّدة الموقف في قطاع التكنولوجيا.
هكذا، وبعدما دفع الكثير من الدول النامية ضريبة تحرير الأسواق، والتخلّي عن حمايتها لقطاعاتها الإنتاجيّة، عادت الدول الصناعيّة الكبرى إلى تبنّي السياسات الحمائيّة بحثًا عن مصالحها الاستراتيجيّة.
وبذلك، تخلّت الدول الصناعيّة عن عناوين وشعارات التجارة الحرّة، التي فرضتها بقسوة- وبمساعدة المؤسسات الماليّة الدوليّة- على الدول النامية. وهكذا خسرت الدول النامية التي انجرّت خلف هذه الشعارات اكتفاءها الذاتي الغذائي، من دون أن تستفيد من الانسياب الحر والمستدام للسلع الغذائيّة عبر الحدود.
اليوم، يعاني الكثير من دول المنطقة العربيّة من تبعات ما يجري في سوق الغذاء العالميّة. فبعض الدول مثل لبنان وتونس ومصر تعتمد أساسًا على الاقتراض لتأمين حاجاتها التمويليّة لشراء القمح، فيما سيؤدّي أي ارتفاع في أسعار هذه المادّة إلى استنزاف قيمة هذه القروض بشكل سريع.
أمّا ارتفاع أسعار السلع الغذائيّة المستوردة الأخرى، فسيزيد بدوره من استنزاف احتياطات العملات الأجنبيّة لدى هذه الدول، ما سيزيد من وطأة أزماتها النقديّة المتفاقمة أصلًا.
لكل هذه الأسباب، لم يعد البحث في أولويّات الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي الغذائي ترفًا في هذه المرحلة بالتحديد، وهو ما يفرض على جميع دول المنطقة البحث في السياسات الاقتصاديّة القادرة على النهوض بالقطاع الزراعي، ولو بأدوات تفرض حماية هذا القطاع بشكل مؤقّت لضمان صموده.
الأهم هو دراسة سبل التكامل بين دول المنطقة، وتحديدًا بين الدول التي تملك الرساميل وتبحث عن فرص لاستثمار فوائضها الماليّة
وهذا الاتجاه يفرض كذلك البحث في مشاريع إدارة المياه واستثمارها، بالطريقة المثلى، في ظل تداعيات الجفاف والتغيّر المناخي الذي يضرب دولا كتونس والسودان والعراق والجزائر وغيرها.
أمّا الأهم فهو دراسة سبل التكامل بين دول المنطقة، وتحديدًا بين الدول التي تملك الرساميل وتبحث عن فرص لاستثمار فوائضها الماليّة، وتلك التي تمتلك البيئة المناسبة للإنتاج الزراعي الوفير، فيما تفتقر للرساميل والاستثمارات الأجنبيّة في القطاع الزراعي.
فمن شأن هذا النوع من التكامل أن يعود بالنفع إلى الطرفين، أولًا من خلال عوائد الاستثمار الجيّدة في ظل ارتفاع أسعار الغذاء العالميّة، وثانيًا من خلال ضمان الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي الغذائي في دول المنطقة.