أوروبا في 2021 ... ديون ثقيلة بسبب كورونا وصراع أميركا والصين

16 فبراير 2021
جائحة كورونا تعمق أزمة العجوزات المالية وخلافات الدول لمواجهة الديون (Getty)
+ الخط -

رغم الجهود الأوروبية لمحاصرة تداعيات جائحة فيروس كورونا باستعجال اللقاحات المضادة للوباء، الذي أنهك خلال العام الماضي العديد من اقتصادات منطقة اليورو المنهكة بالأساس منذ ثقل الديون والأزمة المالية، إلا أن العام الجاري قد يكون أشد وطأة مع استمرار تداعيات الجائحة وبزوغ أزمة ثقة من جديد بشأن إنقاذ الاقتصادات الضعيفة، التي ظلت لسنوات ماضية مطالبة بتخفيف أعباء ديونها من خلال إصلاحات حقيقية.

ويبدو أن استراتيجية الاتحاد الأوروبي التي استمرت نحو ثلاثة عقود لإبقاء ديون المنطقة تحت السيطرة قد تحطمت إلى الأبد بسبب تداعيات الوباء، فقد لامست الديون نحو 100% من الناتج الإجمالي، وتتجاوز هذه النسبة في بعض الاقتصادات مثل إيطاليا 150%، كما أن العجز المتوقع للعام الجاري يصل إلى 6%، بينما كان تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي يتطلب ألا تتجاوز نسبة الديون 60% والعجز 3%.

وبينما رسمت "حزمة التعافي" التي جرى إقرارها قبل نحو شهرين بقيمة 750 مليار يورو (911 مليار دولار) نظرة متفائلة لتعافي منطقة اليورو، إلا أن الواقع قد يبدل المشهد نحو التشاؤم في ظل ضعف الأداء للكثير من الدول.

وبدت النقاشات حول التطورات السلبية لبعض الاقتصادات أكثر وضوحاً بالنسبة لإيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال واليونان وقبرص.

فمنذ 10 سنوات وأوضاع روما الاقتصادية في تراجع، ومع تزايد غياب الاستقرار السياسي بخروج رئيس الوزراء جوزيبي كونتي، ومراهنة اليمين القومي المتشدد على انتخابات مبكرة وتأثير جائحة كورونا، بسبب الإغلاقات والإجراءات الملازمة، لا يزال البلد صاحب ثالث اقتصاد أوروبي يثير مخاوف الاتحاد من التوجه نحو منزلقات تؤثر على بقية دول المنطقة.

فقد أوجبت الآثار الاجتماعية والاقتصادية للجائحة في العام الماضي تدخل البنك المركزي الأوروبي لتجنب أزمة الديون السيادية التي أثرت بشكل عميق على اقتصادات دول الاتحاد في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008، كما شهد ديسمبر/كانون الأول الماضي التوقيع النهائي لقادة التكتل الأوروبي على حزمة التعافي، أملا في عدم الوقوع في مطب أزمة أكوام الديون المدمرة للدول.

ورغم أن أوروبا حاولت تجنب كساد السوق وتراجع الناتج الإجمالي، وتقديمها حوافز لمنع تكدس ملايين العاطلين عن العمل، وتعويض الشركات لأجل الإبقاء على الموظفين، لا يبدو أن القلق والتشاؤم من تراجع الاقتصاد في 2021 أقل مما كانا عليه في العام الماضي، مع توقعات أن يستمر الإغلاق وفرض إجراءات صارمة حتى وقت متأخر منه، بما فيها السفر داخل أوروبا، وخصوصا بعد تشاؤم ملاحظ من عدم فعالية اللقاحات الجديدة في مواجهة طفرات فيروس كورونا.

ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (تتكون من البلدان المتقدمة التي تقبل مبادئ الديمقراطية واقتصاد السوق الحر)، فإن العام الماضي شهد انخفاض الناتج المحلي في منطقة اليورو بنسبة 7.6%، وهو أسوأ بكثير من الانكماش في 2008 و2009، وحتى من الانكماش الأميركي الذي يقدر بنحو 3.5%.

فالإغلاق واسع النطاق في أوروبا يتوقع أن تستمر تأثيراته السلبية حتى نهاية 2021، بحسب تقرير المنظمة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وذلك له تأثير معنوي سلبي على الأسواق والآفاق المستقبلية. وحتى الشهر الحالي، فبراير/شباط، سجل الناتج المحلي في منطقة اليورو تراجعا بمقدار 1% في المتوسط، ففرنسا سجلت خلال الشهرين الماضيين انكماشا بنسبة 1.3%، وكذلك إيطاليا 2% والنمسا 4.3%، وفقا لأرقام دراسة قدمها في الخامس من فبراير/ شباط البنك الدنماركي.

ورغم تفاعل السوق الإيطالي بإيجابية حذرة مع تكليف محافظ البنك المركزي الأوروبي السابق، ماريو رداغي، تشكيل حكومة تكنوقراط، باعتباره اقتصادياً أوروبياً مخضرماً، إلا أن ذلك لا يعني تحسناً في السندات الإيطالية.

ولا يبدو أن الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو سيشهد تحسنا، رغم ضخ 750 مليار يورو في شرايين الأسواق، فإنه ووفقا لتقديرات المفوضية الأوروبية، يوجد تراجع في استثمارات السوق الخاص بنحو 830 مليار يورو لعامي 2020 و2021.

والتراجع المسبب للنظرة المتشائمة في الأسواق الأوروبية، يعزى إلى الهبوط المستمر لاقتصادات دول جنوبي القارة، والتي تعاني أصلا من تراجع الاستثمار منذ 2010، ويبدو أن مؤشرات الانكماش المسجل منذ سبتمبر/أيلول الماضي (بعد 6 أشهر فقط على انتشار الفيروس وما رافقه من إغلاقات) تقلق الأوروبيين من تحوله إلى انكماش مزمن، وهو ما يعني تراجع الرغبة في الاستثمار في أسواق دول مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان وقبرص.

وعلى الرغم من أن البنك المركزي الأوروبي قادر على التدخل، بقرارات سياسية، من خلال شراء سندات حكومية، بفضل مشترياته من الأصول وبفوائد منخفضة، لمنع الانزلاق إلى انكماش مزمن، إلا أن ذلك يفترض تجنب أزمات ديون حكومية لتحقيق المراد في الإنعاش الاقتصادي. ورغم ذلك لا يبدو أن حالة الكساد والتراجع ستتغير كثيرا في العام الحالي، رغم جاذبية اليورو.

وفي كل الأحوال، يبدو أن الأمور سائرة باتجاه ما قدرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، عن أن الناتج المحلي في نهاية هذا العام 2021 سيكون أقل بنسبة 3% عن 2019.

وفي مقابل التراجع الأوروبي يبدو أن الولايات المتحدة، في سياق سياسة الرئيس الجديد، جو بايدن، ستحقق نوعا من التعافي في نهاية العام، كما تقدر دراسات أوروبية أن الصين ستحقق نمواً بنحو 10%، وذلك كله يتجاوز التعافي الأوروبي، ويضع الأوروبيين تحت ضغط اقتصادي يتطلب تدخلات إسعافية تحتاج لقرارات سياسية واقتصادية، أقله لإنقاذ الدول المتعثرة.

حتى وإن بدت محاولة الأوروبيين الظهور أكثر استقلالية في القرارات التجارية والاقتصادية بشكل عام، يبدو أن عوامل السياسة تلعب دوراً في لجم الطموح. فالأوروبيون وجدوا أنفسهم بعد 12 شهراً من انتشار الجائحة في وضع صعب، وخصوصا مع انكشاف أن معداتهم الطبية والوقائية تعتمد على التوريد الصيني.

وقد استخدمت بكين ذلك الانكشاف سياسيا إلى أقصى درجة من الضغوط على الأوروبيين. فبعض الدول، مثل هولندا وألمانيا والدنمارك، وغيرها من دول القارة، تلقت رسائل واضحة تتعلق بعلاقة تلك البلدان ببلد مثل تايوان، أو أزمة هونغ كونغ، إذ امتزجت السياسة بالاقتصاد بصورتها الواضحة بتهديد بكين لأمستردام من زاوية المعدات الطبية إن مضت في فتح سفارة لها في تايبي، كما تعرضت كوبنهاغن لضغوط هائلة بسبب استقبال برلمانيين فيها لمعارضين من الحركة الديمقراطية في هونغ كونغ، خلال شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط الجاري.

ووسط الجائحة يشعر الأوروبيون بوطأة العمل الصيني على تحويل الأعمال التجارية والاقتصاد إلى فن جيوسياسي لليّ ذراع دول الاتحاد الأوروبي. فالعام الماضي، استطاعت بكين توجيه رسالة واضحة إلى برلين بأن منعها وصول تقنيات "هواوي" الصينية العملاقة العاملة في مجال تكنولوجيا الاتصالات قد يكلف غاليا سوق السيارات الألماني، وفقا لما كشفت عنه الصحافة الألمانية والأوروبية.

من ناحية أخرى، لم تثن الضغوط الأميركية على الأوروبيين، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، في "الحرب التجارية" مع الصين، الاتحاد الأوروبي عن دخوله اتفاقا تجاريا مع الصين في قمة افتراضية عقدت في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسط قلق من الموقف الأميركي، وعدم رضا أميركي عن الاتفاق، حتى بقدوم الرئيس الجديد جو بايدن.

ونقلت نيويورك تايمز في 6 يناير/ كانون الثاني الماضي بعضا من المخاوف الأميركية من تعزيز الاتفاقية التجارية الصينية-الأوروبية. وكانت "فايننشال تايمز" اعتبرت ذلك الاتفاق بمثابة "انتصار استراتيجي للصين"، وعبر محللون أوروبيون في الشأن الاقتصادي ـ السياسي عن قلقهم من "غياب استراتيجية أوروبية للاستقلال التجاري والاقتصادي"، كما اعتبرت السفيرة السابقة ومحللة الشؤون الأوروبية في المعهد الفرنسي للدراسات الدولية، كلاودي فرانس آرلوند، في تصريحات للصحافة الدنماركية الشهر الماضي.

واعتبرت آرلوند أن 2021 يجب أن يظهر تضامنا أوروبيا أوسع، وبالأخص بعد خروج بريطانيا من كتلته "ويجب أن يظهر الاتحاد الأوروبي أنه قادر على حماية مصالحه العالمية، وإلا تحولنا إلى حجر في اللعبة بين أميركا والصين".

وفي ذات الاتجاه عبر أيضا مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، مارك ليونارد، في تقرير صدر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن خشيته من "مخاطر وقوع الأوروبيين بين كماشتي الصين وأميركا على المستويين الجيوسياسي والاقتصادي، فعمليا يؤدي عدم استقلالية السياسات الأوروبية الاقتصادية إلى تلك المخاطر".

ورغم أن الأوروبيين يضعون آمالا على متغيرات في السياسة الأميركية في عصر بايدن، تختلف عن حرب ترامب التجارية ضدهم، إلا أن الباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، جيرمي شابيرو، رأى أن ملامح تغيير موقف واشنطن من الأزمة التجارية مع الصين قد لا تختلف كثيرا عن تلك التي تسببت بمشاكل للأوروبيين.

وقال شابيرو إن "ظهور أوروبا عاجزة في بداية انتشار كورونا وارتباطها بموردات الصين لها يجعلان موقف القارة هشاً، وحتى بوجود ضخ لمئات المليارات في شرايين الاقتصاد الأوروبي ستبقى مشكلة أوروبا في إنقاذ اقتصادات جنوبها عائقاً".

المساهمون