يسيطر الارتباك وعدم اليقين على الوضع المعيشي للأوروبيين، بعد أن دهم اقتصاد الحرب مختلف نواحي الحياة، ليشعل التضخم المتصاعد وأزمة الطاقة فتيل السخط الشعبي، ويُبدل مشهد الاستقرار والرغد في القارة الهادئة إلى ضجر وتغيير سياسي سريع يطاول الحكومات في واقع غير مألوف.
تحولت الأوضاع المالية والاقتصادية إلى مصدر قلق للساسة في الكثير من الدول، لا سيما بعد الاستقالة الجبرية لرئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس، التي لم يمض على توليها السلطة سوى نحو 45 يوماً.
فما تعيشه أوروبا ليس فقط غياب "الانسجام والتضامن" في التوصل إلى حلول مشتركة للأزمات، وإنما أيضاً ارتباك القرارات والسياسات الاقتصادية الداخلية، خاصة أن عين الحكام باتت موجهة إلى الشوارع لقدرتها على إسقاط وتغيير الحكومات، ما يزيد من رهان روسيا على الحركات الاحتجاجية المتنامية في تأزيم الوضع بالمجتمعات الغربية.
بالنسبة للديمقراطيات الغربية، وخصوصاً المحكومة من معسكرات تيارات الوسط، فإن الأمور تتطور نحو الأسوأ، وتختلف عما كانت عليه قبل نحو 8 أشهر حين بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا. فالاحتجاجات تتسع ويتوقع أن تنفجر مع "غضب الشتاء"، وفق تحذيرات لمؤسسات بحثية وإعلامية، إذ يلعب الاقتصاد دور دينامو التذمر الاجتماعي.
الاتصال بموسكو
والاحتجاجات هذه المرة قد تختلف عن التظاهرات التي شهدتها قبل أسابيع شوارع جمهورية التشيك، وتوسعها إلى ألمانيا، حيث هتف المتظاهرون منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الجاري في لايبزيغ، ثاني أكبر مدن ولاية ساكسونيا في شرق ألمانيا، بأنه على ساسة برلين "الاتصال بموسكو".
كما أن احتجاجات فرنسا المستمرة منذ أسابيع، والمطالبة بمواجهة الغلاء وزيادة الأجور، لا تبشر بأن بقية القارة ستكون بخير حتى العام القادم 2023، على الأقل، حيث أضحت أسعار الطاقة المحرك الرئيسي لموجات الغلاء والخوف من المستقبل.
يقول بن ماكويليامز، الخبير في الطاقة والمناخ في مركز أبحاث بروغل في بروكسل، إن "الأمور ذاهبة نحو الأسوأ في العام المقبل"، مشيراً إلى أن 30% من مستودعات الغاز الأوروبي حالياً من مصدر روسي "وفي هذا الشتاء سيتعين علينا الحفاظ على جزء من الغاز الموجود لدينا، حتى تتاح لنا الفرصة لملئه مرة أخرى العام المقبل".
ويرى ماكويليامز أنه رغم الانخفاض الأخير في أسعار الغاز "إلا أننا سنكون أمام حالة جنون في الأسعار عندما تبدأ الخزانات في النفاد خلال فصل الشتاء". ويتوقع أن تستمر المشكلة مع حلول شتاء 2023، بما يرهق فعلاً أوروبا، في ظل غياب بدائل جدية تنقذ أوروبا من ورطتها مع نفاد الغاز.
فمشاكل الطاقة تولد معها سلسلة مشاكل أخرى لا تتعلق فقط بكيفية التدفئة شتاءً، بل بدورة الاقتصاد كله، بما له من تأثيرات وانعكاسات على أغلب المستويات، من السياسة إلى العسكرة والاجتماع.
وكان رئيس وزراء بلجيكا، ألكسندر دي كرو، قد عبر بشكل واضح عما تعنيه أزمة الطاقة في أوروبا حين حذر من "أننا (في أوروبا) نجازف بإلغاء التصنيع على نطاق واسع في القارة الأوروبية". ذلك إلى جانب الخوف من أن ارتفاع الأسعار، وعدم توفر الطاقة يمكن أن يدفع بالشركات إلى الهجرة.
ارتفاع أسعار الطاقة
وشكّلت الاحتجاجات في الشارع الألماني، رغم تخصيص حكومة المستشار أولاف شولنز، مئات المليارات من اليورو لمواجهة تداعيات الغلاء، إنذاراً لمستوى تأثير ارتفاع أسعار الطاقة وتكلفة الحياة بفعل التضخم الأوروبي عموماً على مزاج الشارع.
فخطاب اليمين القومي المتشدد يندفع لإحداث صخب يدعو إلى طرد الطبقات الحاكمة واستبدالها.
عملياً، ما يقلق الساسة الأوروبيين أن روسيا بالفعل بدأت حصد ثمار استثمارها الطويل الأمد في خلق شراكات في مجال الطاقة مع أوروبا، والتي أشار إليها قبل سنوات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، للتأثير على ميول الشوارع الأوروبية.
فقد طالب متظاهرو ألمانيا الحكومة برفع العقوبات عن روسيا واتصال الحكومة الألمانية بموسكو، وفتح أنابيب "نوردستريم" لإيصال الغاز الروسي مرة أخرى.
وذهب محرر مجلة "كومباكت" اليمينية المتشددة في ألمانيا، يورغن إلساسر، إلى مخاطبة الألمان بأن بلده (ألمانيا) "خان شراكتنا في الطاقة مع روسيا، لصالح صناعة التكسير الهيدروليكي الأميركي"، وسط تصفيق حار من المتظاهرين في ميدان أوغست بلاتز في لايبزغ قبل أسابيع، مستحضراً مشهد السرد الروسي عن أن أوروبا رهينة في يد سياسات واشنطن.
ولأن ألمانيا وفرنسا ليسا بلدين بسيطان على مستوى العجلة الصناعية والاقتصادية في الاتحاد الأوروبي، فقد ارتفعت أصوات تقول إنه "يجب وقف حرب الغرب المجنونة ضد روسيا والعودة لشراء الغاز منها لوقف الارتفاع الصاروخي في أسعار الطاقة"، كما يطالب أقطاب اليمين المتشدد في مختلف الدول.
وبحسب معهد "ديف" DIW الاقتصادي الألماني، فإن أحد مشاكل ألمانيا هي في عدم توزيع الثروة بشكل متساو، حيث 40% من الشعب ليس لديه ثروة، رغم ثراء البلد الصناعي، على ما نقلت "دي فيلت" تزامناً مع احتجاجات لايبزيغ.
أصوات احتجاجية
ورغم أن برلين قدمت مؤخراً "حزمة إسعافية" بقيمة 65 مليار يورو، تتضمن صرف مبلغ مقطوع قدره 300 يورو للمتقاعدين، مع زيادة طفيفة في بدل السكن والمساعدة النقدية، فإن "ملايين من الطبقة المتوسطة والفقراء سيكونون أمام مشكلة حقيقية في حال تضاعفت فجأة فاتورة غازهم البالغة ألف يورو سنوياً أربع مرات".
والأمر لم يعد محصوراً في فرنسا وألمانيا والتشيك وتذمر مكتوم في بولندا وبقية وسط وشرق القارة، بل يتوسع نحو أصوات احتجاجية في جنوب القارة، مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان، حيث يؤدي ارتفاع أسعار الكهرباء والتدفئة أو الأساسيات الأخرى بالنسبة ليوميات الأسر، إلى الاحتجاج على سياسات الحكومات. وتسارع بعض تلك الحكومات نحو حلول أشبه بالفردية لإنفاق مليارات اليورو لخفض أسعار البنزين وغيرها، اتقاء لثورات اجتماعية.
في كل الأحوال، لا يتوقع مركز أبحاث بروغيل في بروكسل، أن تتراجع مخاطر تلك الثورات الاجتماعية حتى أغسطس/آب من العام القادم. فصرف ما يقرب من 3% من الناتج الإجمالي المحلي حتى الصيف الماضي، بحسب المركز، في دول مثل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان، لتخفيف أسعار الطاقة على المواطنين والصناعات، ينذر أيضاً بأزمات أخرى مع استمرار الصرف، دون وجود ضمانات من الاتحاد الأوروبي للاقتراض المشترك.
إذاً، الطبقة السياسية الأوروبية تجد نفسها للمرة الأولى منذ بداية السبعينيات (بعد سنوات قليلة من اندلاع احتجاجات الثورات الشبابية) في مواجهة تحديات من نوع مختلف عماده الاقتصاد، في قارة تحتل موقعاً متقدماً في مجموع الاقتصاد العالمي. وقرعت تظاهرات التشيك المفاجئة قبل نحو أسبوعين جرس الإنذار، بحسب ما وصفه ميلان نيك، الباحث التشيكي وخبير السياسات الأوروبية في مركز أبحاث "دغاب".
تقريب الأصدقاء ومعاقبة الأعداء
ومع الاضطرابات الداخلية، يتخوف أن تتسبب سياسة موسكو في تقريب الأصدقاء ومعاقبة الأعداء في تعميق الانقسام الأوروبي. فحتى مع استهداف خطي أنابيب "نوردستريم 1 و2" في بحر البلطيق في أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، والعقوبات الغربية ضد موسكو، فإن الغاز الروسي لا يزال يجد طريقه إلى بعض دول القارة، وهو بمثابة إغراء للبعض لتفتيت وحدة الأوروبيين، وهو ما يخشاه ساسة عاصمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وخصوصاً رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، التي لم تستطع في قمة دول ناديها (الخميس والجمعة الماضيين) الاتفاق على سقف محدد للأسعار والاقتراض المشترك لمساعدة مواطني مجتمعاتها من الأزمة الطاحنة.
وعبر رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان (قومي متشدد) بلغة واضحة عما يراه سبباً في أزمة غياب اتفاق في أوروبا على الحلول الجذرية، رابطاً بين وقف الغاز الروسي الرخيص والأزمات الاقتصادية والمالية.
أوربان كتب عن حقيقة المزاج الأوروبي المعكر، قبيل لقاء القادة الأوروبيين في بروكسل، مذكراً زملاءه في بقية الدول الـ26 بأنهم يتحدثون كثيراً عن "الغاز الروسي السيئ، ويقولون إنه يجب التوقف عن شرائه، لكن لا أحد يخبرنا كيف نستبدله؟".