يتزايد القلق في أوروبا من نقص العمالة في ظل ارتفاع متوسط الأعمار، إذ يتوقع أن يشهد الاتحاد الأوروبي تقاعد نحو 38 مليون شخص بحلول عام 2050، ما يؤثر على سوق العمل، لتعاني ألمانيا وحدها التي توثر بقاطرة الاقتصاد في القارة العجوز نقصا بنحو 7 ملايين عامل بحلول 2035.
ورغم توسيع الاتحاد الأوروبي عضويته منذ 2004، نحو شرق ووسط القارة، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً ثابتاً في تدفق اليد العاملة من الدول المنضوية حديثاً تحت لواء الاتحاد.
وفي صيف العام الماضي حذر نائب المستشار الألماني ووزير الاقتصاد روبرت هابيك من أن برلين ستجد نفسها في حاجة إلى ملايين الأيدي العاملة، من غير المحلية.
وعلى المسار نفسه تسير دول شمال وغرب القارة، في إطار السعي إلى ما يسمى "استراتيجية" الاستقلال عن الارتهان الاقتصادي للصين والولايات المتحدة.
فقطاعات عدة تعاني تحت وطأة نقص اليد العاملة، حيث تضطر الشركات، بما فيها قطاعات البناء والإنتاج الصناعي والرعاية الاجتماعية، إلى خفض أعمالها مع التناقص المستمر في العمالة المحلية، وتراجع جاذبية أسواقها للمهرة من دول أوروبية شرقية، على الأقل منذ 2015.
نموذج ألماني يعكس واقع أوروبا
لعل ألمانيا، التي تشكل رافعة كبرى لاقتصاد الاتحاد الأوروبي المحتفل بمرور 70 عاماً على تأسيس "السوق المشتركة"، تقدم نموذجا لصورة الأعداد التي تنقص في السواعد التي تعزز تنافسية اقتصادها عالمياً.
فالوزير الألماني هابيك، من حزب الخضر، ذهب في يونيو/ حزيران 2022 إلى الكشف صراحة عن أن بلاده تعاني من نقص في شغل 300 ألف وظيفة "وسيرتفع العدد إلى مليون وظيفة في المرحلة القادمة".
الحل الآني، برأي هابيك، هو في محاولة تسريع عمليات تأهيل وتدريب اليد العاملة، وخصوصا على مستوى المهارة، لأجل سد العجز. بالإضافة إلى ذلك، فتح الباب بشكل أوسع أمام مشاركة اليد العاملة من الأصول المهاجرة. ووفق تقديرات رسمية ألمانية، فإن النقص في اليد العاملة يصل إلى نحو خمسة ملايين شخص في 2030.
ولا يختلف الواقع كثيراً في باقي أوروبا، إذ تتزايد أعداد كبار السن المنسحبين من سوق العمل، كما هو الواقع في شمال القارة الثرية. وتتوالى التحذيرات منذ أكثر من عقد من واقع التطور الديموغرافي في غرب وشمال القارة، فمعدل الولادات منخفض تزامناً مع ارتفاع متوسط العمر، على الرغم من تدفق اللاجئين منذ 2015.
تعزيز الاستقلالية الأوروبية يحتاج ملايين العمال
ترفع المفوضية الأوروبية بشكل متزايد شعارات تعزيز استقلاليتها، وبشكل خاص منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، لكن لا يبدو أن تحقيق هذا الأمر سهلاً. ففي دول الرفاهية في إسكندنافيا، لا يقتصر الأمر على نقص العمالة في قطاعات الإنتاج وإنما أيضا مجالات أنشطة خدمية حيوية، على غرار الصحة. فالعديد من الدول تئن من تناقص الكوادر الطبية، لا سيما الممرضين في المشافي، ورعاية كبار السن والصغار.
وفي الدنمارك، تتصاعد التحذيرات من تأثر صناعة البناء بنقص العمالة، وهو ما يتطابق عملياً مع بقية نماذج دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك النرويج وسويسرا من خارج الاتحاد.
ومنذ ما يقرب من عقد تتراجع جاذبية دول غرب وشمال أوروبا للقوى العاملة من أوروبا الشرقية، حيث تشهد الأخيرة نمواً في العديد من القطاعات، بما فيها بولندا التي عدت مع جيرانها الشرقيين خزاناً للعمالة في قطاعات البناء والتمريض والرعاية.
وبحسب المعهد الألماني لأبحاث سوق العمل (IFA)، فإن الاتحاد الأوروبي سيشهد انضمام نحو 38 مليون إنسان إلى خانة المتقاعدين في منتصف القرن الحالي، ووحدها ألمانيا ستعاني نقصا بنحو 7 ملايين عامل بحلول 2035.
ورغم استقبال القارة منذ 2015 نحو مليون لاجئ، إلا أن دولاً كثيرة لم تستطع دمج الأغلبية في سوق العمل، لأسباب عدة، أهمها غياب المهارة واللغة والمحفزات التي استفاد منها أبناء وأحفاد المهاجرين القدماء. كما أن التشدد في قوانين اللجوء والهجرة وشروط التوظيف في قطاعات مختلفة، لا سيما لأولئك القادمين من خارج الاتحاد الأوروبي، يزيد فعليا من أرق أسواق كثيرة.
فحتى مع الزيادة الكبيرة في عدد طلبات اللجوء في العام الماضي بنحو 50% عن 2021، حيث تقدم نحو 900 ألف شخص بطلبات لجوء إلى دول الاتحاد الأوروبي وسويسرا والنرويج، تتحدر أغلبيتهم من سورية وأفغانستان، فإن القارة تفكر بحلول أخرى.
تزايد الآتين من مصر وتونس
فتزايد القادمين من تونس ومصر والمغرب منذ 2019 بشكل غير مسبوق يدفع أوروبا للاعتقاد بأن الأزمات المعيشية لجيرانها في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط ربما تدفع المزيد للتحرك نحوها. ومع قوانين اللجوء الحالية يبدو منح الإقامة للقادمين من تلك الدول أمراً صعباً.
وعليه يبدو النقاش آخذا في التسارع على المستوى الأوروبي، مع تزايد الضغط على أنظمة اللجوء في دول أقل قدرة على الاستيعاب، مثل قبرص وإيطاليا والنمسا، وهو ما ناقشه الأوروبيون في قمتهم في فبراير/ شباط الماضي، وشكل قضية مشاحنة بين الأوروبيين، وبصورة خاصة بين إيطاليا وفرنسا، وذلك قبيل القمة القادمة في يونيو/ حزيران القادم.
ويقدم مسؤولون ومراكز أبحاث أوروبية وأكاديميون متخصصون في أسواق العمل مقترحات مختلفة على ما يجب فعله لسد الحاجة لليد العاملة. ومن هذه المقترحات ما طرحته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون درلاين بالعودة إلى هجرة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لاستقدام يد عاملة ماهرة من دول المنشأ، جنوب المتوسط.
وطرحت فون ديرلاين خلال الأسابيع الماضية نظاما يحبذه أصحاب رؤوس الأموال والشركات والمصانع في عدد من دول القارة، ويتمثل في وقف الطرق غير القانونية للهجرة وإحالتها إلى طرق نظامية لتمكين المهرة من القدوم إلى القارة.
في الأثناء، يسارع بالأساس الاتحاد الأوروبي الخطى لتطبيق برامجه التي تبناها على شكل "شراكات المواهب"، مع كل من تونس ومصر والمغرب، والهادفة بشكل رئيس إلى جذب العمالة المتخصصة وضمان التعامل مع الهجرة غير النظامية.
وبغض النظر عما ستؤول إليه الحلول والمقترحات، فإن الثابت أن أوروبا التي استمعت إلى التحذيرات في 2010 عن نقص اليد العاملة مع مطلع 2022 باتت تعيش تحدياً كبيرا في هذا السياق.