عادت قضية الأموال المنهوبة والمهرَّبة من الجزائر إلى الخارج من قبل رجال أعمال ومسؤولين سابقين إلى الواجهة مجدَّداً بعد الإعلان عن قيام السلطات الإماراتية بتسليم المدير العام الأسبق لشركة "سوناطراك"، عبد المؤمن ولد قدور، إلى الجزائر يوم 4 أغسطس/آب 2021، لينضمَّ بذلك إلى باقي أفراد العصابة القابعين حالياً خلف القضبان والذين عاثوا في البلاد فساداً في عهد الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة.
ومع استمرار جلسات محاكمة أبرز رموز النظام السابق التي كشفت عن عفن الفساد الذي استشرى في البلاد لأكثر من 20 عاماً ووصل إلى حجم مهول، تتواصل محاولات استرداد المال العام المنهوب باستخدام شتى الوسائل، فقد تضمَّنت وثيقة مخطّط عمل الحكومة، التي صادق عليها مجلس الوزراء في 30 أغسطس/آب 2021 والتي ستُعرَض أيضاً على البرلمان ابتداءً من اليوم 13 سبتمبر/أيلول الجاري، اللجوء إلى طرق التسوية الودية والتفاوض مع ناهبي المال العام المسجونين لاسترجاع الأموال المنهوبة مقابل تخفيف العقوبات عنهم أو إخلاء سبيلهم.
200 مليار دولار هي القيمة المُقدَّرة للأموال الجزائرية المهرَّبة إلى فرنسا، سويسرا، إسبانيا، لوكسمبورغ، إيطاليا، مالطا، أيرلندا الشمالية، الصين، بنما، أميركا، كندا، تونس، المغرب والإمارات وغيرها؛ لم تتمكَّن السلطات الجزائرية حتى كتابة هذه السطور من استرجاع دولارٍ واحد منها نتيجة التعقيدات العويصة التي تكتنف مهمّة استرداد تلك الأموال من الخارج كالتعنُّت الذي تواجه به البنوك الأجنبية التحقيقات الجزائرية.
إضافة إلى تستُّرها على الفاسدين، غياب الاتِّفاقيات الدولية القضائية الثنائية مع العديد من تلك الدول وعدم تجاوب هذه الأخيرة للتفاوض والتعاون مع السلطات الجزائرية لتسهيل وتسريع عملية استرجاع الأموال المهرَّبة إلى الخارج بجميع الأشكال التي اتَّخذتها السائل والمنقول منها والشركات والعقارات والأراضي.
200 مليار دولار هي القيمة المُقدَّرة للأموال الجزائرية المهرَّبة إلى فرنسا، سويسرا، إسبانيا، لوكسمبورغ، إيطاليا، مالطا، أيرلندا الشمالية، الصين، بنما، أميركا، كندا، تونس، المغرب والإمارات
هذه المهمّة ليست بالأمر السهل، فهي تتطلَّب تنسيقاً متكاملاً ودقيقاً بين الجهات المحلية والأطراف الأجنبية وتحتاج إلى ذخيرة كبيرة من التجارب والخبرات، وهذا ما تفتقر إليه الجزائر التي لم يسبق لها أن خاضت مثل هذه التجربة.
فطوال سنوات حكم عبد العزيز بوتفليقة لم تكن هناك متابعة فعلية وحقيقية للسارقين والناهبين للمال العام، من رجال المال والأعمال والسلطة سواء داخل الجزائر أو خارجها.
فقد تمكَّن الفاسدون من تهريب مبالغ ضخمة بالعملة الصعبة من خلال استغلال المال العام وتحويل جزء معتبر منه إلى جيوبهم وحساباتهم المصرفية بواسطة تضخيم الفواتير، اقتناص الصفقات العمومية وإقامة المشاريع الوهمية؛ كما ساعد النشاط القوَّي للسوق السوداء للعملة الصعبة في الجزائر الفاسدين على تحويل ما نهبوه إلى نقد أجنبي كاليورو والدولار، فحال تلك السوق في عين الاقتصاد الجزائري لا يختلف كثيراً عن حال الثقب الأسود الذي يبتلع المجرَّات.
تدرك الحكومة الحالية أهمية ملف استرداد الأموال المنهوبة خصوصاً في ظل تردِّي أوضاع الاقتصاد الجزائري الذي ينازع للخروج من أزمته التي تعمَّقت بفعل انخفاض أسعار النفط وجائحة كورونا.
فقد وصل احتياطي النقد الأجنبي إلى مستويات حرجة بلغت 44 مليار دولار بحسب تصريح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون يوم 25 يوليو/تموز 2021، نزولاً من 62 مليار دولار في فبراير/شباط 2020 و72.6 مليار دولار في أبريل/نيسان 2019 بحسب تصريحات محافظ بنك الجزائر المركزي السابق أيمن بن عبد الرحمن العام الماضي.
وتبخُّر نحو 79 بالمائة من احتياطي الجزائر من العملة الصعبة منذ انهيار أسعار النفط في النصف الثاني من 2014 لا يليق بدولة غنية بكل أنواع الثروات الطبيعية وليس مطمئناً أبداً.
فقد آن الأوان للنظام الجديد أن يُغيِّر لهجة الطمأنينة التي تعوَّد الشعب الجزائري على سماعها من النظام القديم منذ أن كانت خزائن البنك المركزي تحوي أزيد من 200 مليار دولار.
ومصارحة الشعب بجميع الحقائق والإجراءات المُقرَّر تنفيذها للخروج من عنق الزجاجة باتت أمراً ضرورياً بغية التماس الطريق الصحيح للإصلاح وفق أسس الشفافية والمساءلة.
وفقاً لتصريحات الرئيس التنفيذي لشركة سوناطراك توفيق حكار، هناك توقُّعات بارتفاع ايرادات النفط والغاز إلى 30 مليار دولار في العام الجاري إذا ظلّت أسعار النفط بين 65 و75 دولاراً للبرميل، ومن الجليّ جدّاً أنّ ذلك المبلغ غير كافٍ لتسكين أوجاع الاقتصاد الجزائري التي لم تفلح في تسكينها حتى الـ 60 و70 مليار دولار قبل العام 2014.
تبخُّر نحو 79 بالمائة من احتياطي الجزائر من العملة الصعبة منذ انهيار أسعار النفط في النصف الثاني من 2014 لا يليق بدولة غنية بكل أنواع الثروات الطبيعية وليس مطمئناً أبداً
حيث يعتمد الاقتصاد الجزائري على تلك الايرادات في تحصيل 95 بالمائة من إيراداته من العملة الأجنبية، ويستند أيضاً إلى مساهمة الجباية البترولية في تغطية إيرادات ميزانية الدولة بنسبة لا تتجاوز الـ40 بالمائة، بل وصلت إلى 36 بالمائة فقط في ميزانية 2021 وفقاً لقانون المالية لسنة 2021 على عكس نسبة 60 بالمائة التي أشارت إليها بعض المقالات والتقارير الصحافية.
لقد صرف النظام القديم أكثر من 1000 مليار دولار خلال مدّة 20 سنة حدث فيها تزاوج المال بالسياسة وتشابكت خلالها مصالح السياسيين بمصالح رجال الأعمال دون تحقيق تطلُّعات الشعب الجزائري نحو حياة أفضل ترسمها تطوُّرات ملحوظة في التعليم، الصحة، التوظيف والبنى التحتية.
وبعد مرور عقدين على استشراء الفساد في مفاصل الدولة، تحرَّك النظام الجديد وأودع حتى الآن حوالي 56 من أولئك الملاحقين في قضايا الفساد السجن، بينما بقيت الأموال المنهوبة حبيسة الحسابات المصرفية للفاسدين بالخارج.
الجزائر ليست البلد الوحيد الذي عجز عن استرداد أمواله المنهوبة منه، ولنا في تجارب العديد من الدول الدليل الكافي لمدى صعوبة هذه العملية الشاقّة.
فعلى سبيل المثال عجزت روسيا والصين بكل امكاناتهما عن استرجاع أموالهما المهرَّبة إلى أميركا التي تفوَّقت حتى على سويسرا وانتزعت منها لقب المقرّ الأول للأموال السرية وما يتَّصل بها من ممارسات الفساد، حيث تطالب أميركا كل دول العالم بتزويدها بكافة أنواع المعلومات والبيانات البنكية لاسترجاع أي دولار تسرَّب منها إلى خارج حدودها، ولكنّها تمتنع تماماً عن تقديم معلومات مماثلة لأيّ دولة أخرى عندما يتعلّق الأمر بتسليم الأموال المنهوبة.
خلاصة القول، يمكن للشعب الجزائري أن يتخيَّل أسوأ السيناريوهات في أنّ ما ذهب لن يعود، ولكن ما ينبغي له أن يتمسَّك به هو المطالبة المستمرّة بمحاربة كل أشكال الفساد، دون كلل أو ملل، والضرب بدون رحمة على أيدي من يبثُّون بذور الفساد.