تنفد الدولارات بسرعة مخيفة من البنك المركزي في الأرجنتين، وربما تواجه البلاد أزمة جديدة أكثر حدة من تلك التي واجهتها في العام الماضي حسب مراقبين، إذ فشلت الحكومة تماماً في تلبية احتياجات الواردات الضرورية، في وقت يخنق البلاد الغلاء الفاحش للسلع وسط جائحة كورونا وانهيار قيمة العملة الوطنية "البيزو".
وقالت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستينا جورجيفا يوم الأربعاء الماضي "تواجه الأرجنتين تحديات درامية، إذ تدخل البلاد في ركود اقتصادي عميق، وتزداد الأوضاع الاجتماعية سوءاً، كما يتزايد عدم التوازن الاقتصادي".
واعترف الرئيس الأرجنتيني، ألبرتو فرنانديز، يوم السبت بالأزمة النقدية الحادة التي تعاني منها البلاد، والنقص الملحوظ في العملات الصعبة اللازمة لتسيير العجلة الاقتصادية وسداد الديون الخارجية وتمويل فاتورة الواردات.
ومن علامات عمق الأزمة المالية والاقتصادية التي تعاني منها الأرجنتين، تدهور سعر صرف العملة الوطنية، البيزو، والفارق المخيف والمتسارع بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية أو السوق السوداء، إذ تراجع سعر صرف العملة الأرجنتينية في السوق السوداء إلى 130 بيزو مقابل الدولار في أغسطس/ آب الماضي، وإلى 167 بيزو في الأسبوع الماضي، مقارنة مع السعر الرسمي البالغ 82 بيزو للدولار.
وهذا يعكس العجلة المتسارعة لتدهور سعر العملة الوطنية، في وقت لا يجد فيه البنك المركزي الدولارات اللازمة لدعم سعر الصرف.
وحسب بيانات أميركية، تراجع الاحتياطي الأجنبي في البنك المركزي الأرجنتيني من 6 مليارات دولار في منتصف أغسطس/ آب الماضي إلى 1.6 مليار دولار في الأسبوع الماضي.
وتواجه الشركات الأرجنتينية صعوبة في الحصول على الدولارات اللازمة لتسديد فواتير الواردات الضرورية للصناعات، وعادة ما يلجأ الموردون للسوق السوداء لشراء الدولارات، وهو ما قاد تلقائياً إلى تدهور البيزو ورفع كلفة المنتج.
ويتخوف أصحاب الحسابات الدولارية بالبنوك الأرجنتينية من صدور قرار حكومي بتحويل دولاراتهم إلى العملة المحلية وسط الضائقة التي تعاني منها البلاد. وهو ما سيعني أنهم سيتكبدون خسائر باهظة ربما تجعلهم يخسرون أكثر من نصف ثروتهم في حال حدوث ذلك، بحساب الفارق الحالي بين السعر الرسمي للبيزو وسعر السوق السوداء.
ونصح مدير فرع أحد المصارف الكبرى في العاصمة بوينس آيرس عملاء المصرف بسحب الدولارات من حساباتهم قبل صدور قرار رسمي بتحويلها إلى العملة المحلية.
وقال المصرفي في تعليقات بهذا الشأن "في هذه البلاد ليس لدينا تاريخ مشرف يمنح الأمان للمودعين بترك الدولارات في حساباتهم البنكية". وأضاف "لقد سبق أن أصدرت الحكومة قراراً بتحويل الحسابات الدولارية إلى حسابات بالعملة المحلية".
وبينما تدور شائعات قوية في البلاد بشأن تحويل الدولارات إلى العملة المحلية في الشارع الأرجنتيني، يؤكد الرئيس ألبرتو فرنانديز أن هذا لن يحدث.
وحسب صحيفة "بوينس آيرس تايمز"، قال فرنانديز يوم السبت "نواجه أزمة نقص في العملات الصعبة، وهنالك عدم ثقة وسط المواطنين بسبب ما يتردد من إشاعات غير صحيحة حول أننا نخطط لخفض قيمة العملة، أو نعمل على الاستيلاء على إيداعات الناس بالبنوك... وهذا لن يحدث". كما رد الرئيس الأرجنتيني كذلك على الإشاعات في الشارع الأرجنتيني التي تقول إن "الحكومة لا تهتم بدعم الأعمال التجارية".
على صعيد مستقبل التعامل مع أزمة البلاد المالية قالت صحيفة "بوينس آيرس" الصادرة باللغة الإنكليزية في طبعتها أمس الأحد، إن صندوق النقد الدولي سيبدأ في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل محادثات رسمية مع حكومة الرئيس ألبرتو فرنانديز، لوضع حزمة مالية جديدة لإنقاذ البلاد من براثن الإفلاس.
ويتوقع الصندوق في تقريره الصادر الأسبوع الماضي، انكماش الاقتصاد الأرجنتيني بنسبة 11.8% خلال العام الجاري.
والأرجنتين تعد ثاني اقتصاد في أميركا اللاتينية، وسيشكل إفلاسها أزمة مالية كبيرة بالنسبة للقارة الأميركية اللاتينية بأكملها، إذ يقدر حجم اقتصادها بنحو 445 مليار دولار في العام 2019، ويقدر عدد سكانها بنحو 45 مليون نسمة. وبالتالي فإن إفلاسها ستكون له تداعيات وخيمة على مجمل دول القارة التي تعاني مسبقاً من إفلاس فنزويلا، ومتاعب اقتصادية في العديد من بلدانها.
وعلى الرغم من الخلافات السياسية بين الحكومة الأرجنتينية والإدارة الأميركية، فإن واشنطن تحرص على إنقاذ الاقتصاد الأرجنتيني لأسباب أهمها مخاوف فقدان النفوذ السياسي في القارة اللاتينية.
وتتخوف واشنطن من وقوع القارة اللاتينية بأكملها في أحضان بكين وموسكو، في حال عدم مساعدة الأرجنتين مالياً على الخروج من هذه الأزمة المالية الخانقة.
وتنصب بكين وموسكو صواريخ ذرية على غرار ما حدث في كوبا خلال أزمة خليج الخنزير التي كادت أن تشعل حرباً ذرية في الستينيات من القرن الماضي.
يذكر أن الرئيس الأرجنتيني فرنانديز كشف في محادثة هاتفية مع نظيره الصيني شي جين بينغ في نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، الرغبة في زيادة حجم التعاون المالي والاقتصادي مع الصين.
من جانبه قال شي إن بكين ترغب في استيراد المزيد من السلع الأولية من الأرجنتين.
وكانت حكومة الرئيس فرنانديز قد فشلت في خدمة ديون قرض سابق قدمه الصندوق بقيمة 57 مليار دولار، صرفت منها بوينس آيرس نحو 44 مليار دولار.
وكانت مسؤولة صندوق النقد، جولي كوزاك المسؤولة عن الملف الأرجنتيني، قد زارت بوينس آيرس على رأس وفد من الصندوق لمدة 5 أيام أجرت خلالها لقاءات مع العديد من الفعاليات السياسية والاقتصادية.
وقالت كوزاك إن الوفد سيعود لتصميم حزمة الإنقاذ في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. مؤكدة أن "لدينا تفهما عميقا بشأن الأزمة وخطط الحكومة للاستقرار الاقتصادي ومسار التحول نحو النمو الشامل في البلاد".
وبنهاية العام 2019 بلغت ديون الأرجنتين السيادية الخارجية نحو 323 مليار دولار. وتمكنت الحكومة الأرجنتينية خلال أغسطس/ آب من إعادة جدولة ديون قيمتها 65 مليار دولار مع مصارف أجنبية، ولكن هذه الجدولة لم تنعكس على سعر سنداتها في سوق الائتمان العالمي، إذ تراجع سعر السندات السيادية في سوق الائتمان الأميركي إلى ما يتراوح بين 35 إلى 45 سنتاً للدولار.
وهذا السعر المنخفض الذي يعرضه المستثمرون لحملة هذه السندات يعكس عدم الثقة في مستقبل تعافي الاقتصاد الأرجنتيني، وكذلك عدم الثقة بقدرة بوينس آيرس على خدمة ديونها بالعملات الأجنبية.
وتفاقم جائحة كورونا الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين، حيث يعيش أكثر من ثلث سكان البلاد البالغ عددهم 44 مليون نسمة تحت خط الفقر. وشهدت البلاد خلال الشهور الأخيرة ارتفاعاً جنونياً في أسعار السلع الضرورية، إذ بلغ معدل التضخم 40 في المائة.
وربما سيواصل معدل التضخم الارتفاع خلال هذا العام تبعاً لتدهور قيمة البيزو، أو إلى حين توصل الحكومة إلى اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي. وهو اتفاق لا يتوقع اقتصاديون حدوثه قبل حلول العام المقبل، لأن المفاوضات ستبدأ في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
وعلى الرغم من حرص الصندوق على إنقاذ الأرجنتين من هذه الأزمة، فإن قرار الحزمة المالية قد يأخذ عدة شهور حسب الإجراءات البيروقراطية بالمؤسسات الدولية.
ووسط التدهور السريع في البيزو، وغياب الدولارات اللازمة للتدخل في سوق الصرف، ربما تلجا الحكومة في أية لحظة لاتخاذ إجراءات تقييد التعامل في النقد الأجنبي. وبالتالي يتزايد الهلع في السوق وسط تكالب المستثمرين لحماية ثرواتهم من التآكل، عبر شراء الدولارات والنقد الأجنبي وادخارها في المنازل. وسبق أن اتخذت الحكومة الأرجنتينية مثل هذا القرار في العام الماضي.