في أعقاب دخول القوات الروسية الأراضي الأوكرانية، توقفت صادرات البلدين من الحبوب والبذور الزيتية، فقفزت أسعار القمح لتصبح مرة ونصف ما كانت عليه بداية العام الحالي، ثم لترتفع بنحو عشرة بالمائة الأسبوع الماضي بعد قرار الهند تعليق صادراتها من القمح بسبب موجة الحر المثيرة للقلق، وتزايد احتمالات حدوث أزمة غذائية طاحنة خلال الأشهر القادمة.
وفي آخر عدد من مجلة إيكونوميست البريطانية الشهيرة، جاءت صورة الغلاف، التي يتم اختيارها كل أسبوع بعناية فائقة وتحمل عادة رسالة هامة، على شكل ثلاث سنبلات من القمح، تحمل كل واحدة منها حبات متعددة على شكل جماجم بشرية، في إشارة إلى ما يتوقع أن تخلفه "المأساة الغذائية المتوقعة" من ضحايا، بعد انتشار المجاعات في مختلف بلدان العالم.
وأرجعت المجلة، المنحازة بالتأكيد ودائماً للدول الغربية، السبب في تلك المجاعات وآثارها الكارثية إلى قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر غزو أوكرانيا، مشيرةً إلى توقعها ندمه على القرار بسبب تزايد عدد القتلى، بمن فيهم من هم بعيدون عن أرض المعركة.
بدت الحرب في أوكرانيا وكأنها تدق المسمار الأخير في نعش نظام غذائي عالمي كان يترنح بسبب تداعيات انتشار وباء كورونا وتسببه في تراجع النشاط الزراعي والتجاري حول العالم، بالإضافة إلى تطورات التغير المناخي وأزمة ارتفاع أسعار الطاقة.
والأسبوع الماضي، حذر أنطونيو غوتيريس، السكرتير العام للأمم المتحدة من ظهور "شبح نقص الغذاء العالمي" خلال الفترة القادمة، واستمراره لعدة سنوات قادمة.
وأشارت مجلة إيكونوميست في عددها الأخير أيضاً إلى أن التكلفة المرتفعة للأغذية الأساسية تسببت بالفعل في زيادة عدد الأشخاص الذين لا يمكنهم ضمان الحصول على ما يكفيهم من طعام بنحو 440 مليون انسان، ليصل إجمالي العدد إلى 1.6 مليار، وأن ما يقرب من 250 مليون شخص أصبحوا على شفا المجاعة، مؤكدةً أنه في حال استمرار الحرب، كما هو مرجح، بما تعنيه من استمرار تعثر الإمدادات من روسيا وأوكرانيا، فإن مئات الملايين من الأفراد سيكونون معرضين للوقوع في براثن الفقر، وهو ما يهدد بانتشار الاضطرابات السياسية، وإصابة الأطفال بالتقزم، وموت الناس جوعاً.
وفي مقالٍ حديث له في جريدة نيويورك تايمز الأميركية، قلل الاقتصادي الأميركي الشهير بول كروغمان من حدة أزمة ارتفاع أسعار الطاقة مقارنة بأزمة الإمدادات الغذائية العالمية التي تضرب العالم حالياً بقوة، مشيراً إلى أن ارتفاع أسعار القمح خلال العام الماضي فاق بصورة واضحة ارتفاع أسعار النفط العالمية.
وبينما أكد أن هذه الأزمة سيكون لها تأثيرات سلبية على بلاده، أشار كروغمان إلى أن التداعيات الأكبر ستكون على "الدول الفقيرة قوي"، التي تنفق الأسر فيها نسبة أكبر من دخلها على الطعام.
أوضح كروغمان أن تراجع صادرات روسيا وأوكرانيا، ومن بعدهما كازاخستان، ثالث أكبر مصدر للمنتجات الزراعية في المنطقة، تسبب في حدوث الأزمة وتفاقمها، إلا أنه أشار أيضاً إلى وجود مشكلة كبيرة في إنتاج الأسمدة، موضحاً أن طرق الإنتاج الحديثة تستهلك الكثير من الطاقة، وأن روسيا كانت قبل الحرب أكبر مُصَدٍّر للأسمدة في العالم، إلا أنها علقت صادراتها خلال الأسابيع الأخيرة، بينما خفضت الصين، أحد أهم منتجي الأسمدة في العالم، صادراتها منها منذ العام الماضي، أملاً في الحد من ارتفاع الأسعار المحلية هناك.
وقال كروغمان إن مثل هذا الحظر على الصادرات يمثل مشكلة أكبر من تبادل فرض التعريفات الجمركية خلال فترة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، لا سيما بعد فرض أكثر من ثلاثٍ وعشرين دولة قيوداً كبيرة على صادرات الغذاء، تمثل 10% من تجارته، منذ نشوب الحرب.
أكد كروغمان أن هذه التفاصيل لا تعني أن حرباً عالمية قد بدأت، إلا أنه شبه الأحداث الحالية بمقدمات الحرب العالمية الأولى، حيث يتم إلحاق الضرر بالعولمة بمفهومها القديم، وتتعثر بوضوح تجارة السلع الأولية الاستراتيجية، كالقمح والأسمدة.
وأشار الكاتب والمفكر الاقتصادي، الذي سبق له الحصول على جائزة نوبل في الاقتصاد، إلى أن السلام يعزز التجارة، وإلى أنه "بما أن العالم أصبح مكانا أكثر خطورة، فإن أشياء مثل تجارة الغذاء، قد تكون أكثر عرضة للخطر مما يدركه أي شخص".
ساهمت روسيا وأوكرانيا بأكثر من ربع ما تم تصديره من القمح والشعير العام الماضي، وثلاثة أرباع صادرات زيت عباد الشمس، ونحو 15% من صادرات الذرة العالمية، وتمثل الدولتان معاً المصدر الرئيس للغذاء للعديد من الدول العربية، حيث تزودان مصر وليبيا بأكثر من ثلثي احتياجاتهما من الحبوب من الخارج، كما يشتري منهما كل من لبنان وتونس نصف وارداتهما منها، وإجمالاً يمكن القول إن الصادرات الغذائية الأوكرانية توفر مأكل ما يقرب من أربعمائة مليون شخص حول العالم، أغلبهم من الدول الفقيرة في الشرق الأوسط والأفريقية.
ومن قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، حذر برنامج الغذاء العالمي من أن عام 2022 "سيكون عاماً رهيباً"، وقالت الصين، أكبر منتج للقمح في العالم، إنه بعد هطول الأمطار التي أخرت الزراعة العام الماضي، فقد يكون محصول هذا العام هو الأسوأ على الإطلاق.
والآن، وبعد حظر الهند، التي كان ينظر إليها باعتبارها الدولة المرشحة لخلافة روسيا وأوكرانيا في التربع على عرش مصدري القمح في العالم، تصديره، فمن المؤكد استنزاف الكميات المنتجة في الدول الأخرى، بما فيها الاقتصادات الكبرى في أوروبا وأميركا، بينما يعاني القرن الأفريقي من أسوأ موجة جفاف منذ أربعة عقود.
التأثيرات المتوقعة لكل تلك التغيرات مرعبة، وتحديداً فيما يتعلق بالدول الناشئة والفقيرة، حيث تنفق الأسر في الأولى 25% من ميزانياتها على الغذاء، بينما ترتفع النسبة في الأخيرة إلى 40%، وتقول الإيكونوميست إن الحكومات في البلدان المستورِدَة لن تستطيع تحمل قيمة الإعانات المطلوبة لمساعدة الفقراء، خاصة إذا كانت هذه البلدان تستورد الطاقة أيضاً!