اعتبر كثيرون أن الحديث عن أزمات تعتري سلاسل الإمداد والتوريد العالمية جراء الإغلاقات لمواجهة انتشار فيروس كورونا من قبيل المبالغات التي يجب التشكك كثيراً في حدوثها، ودعم هذا الاتجاه بشدة وفرة المخزونات العالمية من معظم السلع الاستراتيجية الزراعية والصناعية، ثم العودة التدريجية للأنشطة التجارية والاعتماد المتزايد على التجارة الإلكترونية والتي ساهمت في وفرة الإمدادات إلى حد كبير.
لكن بمرور الوقت ظهرت بعض الأزمات التي ربما ترجح صحة هذا التحليل وانطباقه على بعض القطاعات، حيث تتوالى ارتفاعات أسعار الغذاء، علاوة على حرب الشاحنات، والتي تسببت في تضاعف أسعار الشحن أكثر من مرة خلال الفترة الماضية وتأخير وصول البضائع، بل وتكدسها لدى المنتجين، وكذلك في الارتفاعات القياسية لأسعار السيارات المستعملة والجديدة في الدول الرئيسية المنتجة للسيارات، بداية بسبب توقف الإنتاج، وحالياً بسبب أزمة الرقائق الإلكترونية.
لم يكن أحد يتخيل أن تلك الرقاقة التي لا يتعدى ثمنها دولاراً واحداً والمصنوعة من السيليكون، والتي تعد مكوناً رئيسياً في الدوائر الإلكترونية المختلفة وتستخدم في نقل التعليمات الأساسية إلى الشاشات، يمكن أن تتسبب في تلك الأزمة الكبرى، وتهدد صناعات متعددة مثل السيارات وأنظمة الترفيه بها، والهواتف الذكية والأجهزة المحمولة، فضلاً عن الطائرات والثلاجات المتطورة، ومقاييس الحرارة الذكية، والصناعات التحويلية عموماً.
أعلنت شركة "فورد موتورز" أن الأزمة تسببت في خسارتها 2.5 مليار دولار
في منتصف شهر مارس/ آذار الماضي نقلت وكالة "رويترز" عن جمعية صناعة أشباه الموصلات الصينية تقريراً بأن العالم يمر بنقص غير مسبوق في الرقائق، بعد نمو مبيعات أشباه الموصلات 18% خلال العام الماضي، ويقول المصنعون "في حال كان كل شيء متوفراً عندك، ولكن كانت تنقصك رقائق مشغل العرض، فأنت لن تستطيع فعلياً صنع منتجك".
ونقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية عن جوردان وو، مدير مصنع هيماكس للرقائق، قوله إن الجائحة أدت إلى طلب قوي لدرجة أن شركاء التصنيع لا يستطيعون صنع ما يكفي من رقائق مشغل العرض لجميع اللوحات، وأن المصنعين لن يقدموا على بناء المزيد من خطوط التصنيع لأن ذلك سيكون غير ذي جدوى من الناحية الاقتصادية.
كما نقلت عن كوه دونغ جين؛ الرئيس التنفيذي المشارك لشركة سامسونغ، القول إن الشركة، وهي واحدة من أكبر منتجي الرقائق والأجهزة الإلكترونية في العالم، تتوقع حدوث أزمة لأعمالها خلال الربع الثاني من العام الحالي بسبب نقص إمدادات الرقائق، كما تدرس الشركة تأجيل طرح جيل جديد من هاتفها الذكي "غالاكسي نوت" أحد أكثر هواتفها مبيعاً، خلال العام الحالي.
ويعزو الخبراء تلك الأزمة إلى سوء تقدير من المصنعين الذين توقعوا انخفاض الطلب بسبب الإغلاق الناتج عن فيروس كورونا، ولكنه على العكس من هذه التوقعات تزايد الطلب بصورة كبيرة بعد امتداد الإغلاق لفترات طويلة، والبقاء في المنازل وانتشار العمل عن بعد، الذي استلزم شراء أجهزة الكمبيوتر المحمولة والألواح الإلكترونية، علاوة على أجهزة الألعاب الإلكترونية (البلاي ستيشن)، إضافة إلى تعمد شركة هواوي الصينية العملاقة للتكنولوجيا تخزين أشباه الموصلات العام الماضي، في ظل الحرب التجارية المتفاقمة بين الصين والولايات المتحدة، مما زاد الضغط على الكمية المعروضة.
وساهم في اشتداد الأزمة الحالية تعرض مصنع رقائق مملوك لشركة رينيسانس إلكترونيك جروب لحريق في منتصف الشهر الماضي، وتنتج هذه الشركة وحدها 30% من وحدات التحكم الدقيقة المستخدمة في صناعة السيارات.
كما استمر مصنع سامسونغ في أوستن بولاية تكساس الأميركية في التوقف عن العمل بشكل كامل منذ 16 فبراير/ شباط الماضي، بعد عاصفة شتوية شديدة تسببت في انقطاع التيار الكهربائي في المنطقة.
وبحسب بيان للمصنع فقد استعاد إمدادات الطاقة والمياه، ولكنه لم يستأنف الإنتاج بالمستوى الطبيعي لإجراء فحص للمعدات، ويتوقع أن يتكبد خسائر إنتاج تبلغ نحو 353 مليون دولار بسبب الإغلاق، ويرى المحللون أن المصنع يحتاج إلى ما لا يقل عن أربعة إلى ستة أسابيع لاستئناف عملياته بالمستوى الطبيعي، وأنه بذلك قد يواجه أربعة إلى خمسة أشهر من التعطل في جدول إنتاجه.
المصانع الأميركية تحذر من احتمالية حدوث عجز بمقدار 1.3 مليون وحدة من السيارات والشاحنات الخفيفة في الولايات المتحدة وحدها خلال العام الجاري
ووصلت الأزمة لحدود غير متصورة، إذ أعلنت العديد من مصانع السيارات حول العالم توقفها عن الإنتاج لبعض الوقت، ومؤخراً أعلنت شركة فورد إغلاق 5 مصانع في أميركا ومصنع في تركيا، كما أعلنت شركة نيسان تقليص ساعات العمل بمصانع أميركا، وكذلك خفضت هوندا إنتاجها في بعض المصانع الأميركية.
كما أوقفت فولكس فاغن إنتاج سيارات Tiguan بمصنعها في المكسيك، وأوقفت تويوتا الإنتاج لبضعة أسابيع، كما أعلنت شركة رينو أنها ستوقف إنتاج السيارات في عدد من المصانع، من بينها مصنعها بالمغرب، وكل ذلك في إطار التوقعات التي تشير إلى امتداد أزمة الرقائق حتى نهاية النصف الأول من العام الحالي.
وفي لقاء مع المسؤولين في البيت الأبيض شرح مصنعو السيارات الأميركية أبعاد الأزمة، وطالبوا إدارة الرئيس بايدن بتخصيص جزء من حزمة التحفيز لرقائق السيارات، كما حذروا من احتمالية حدوث عجز بمقدار 1.3 مليون وحدة من السيارات والشاحنات الخفيفة في الولايات المتحدة وحدها خلال العام الجاري في حال لم يحظَ قطاعهم بالأولوية والدعم.
وبسبب الأزمة التي وصلت لذروتها بنهاية مارس/ آذار الماضي انخفض الإنتاج نحو 1.75 مليون سيارة في الفترة ما بين منتصف يناير/ كانون الثاني وحتى نهاية مارس فقط، ولاحقت الخسائر الشركات الكبرى، إذ أعلنت شركة "فورد موتورز" أن هذه الأزمة تسببت في خسارتها 2.5 مليار دولار.
وتوقع خبراء صناعة السيارات في العالم تعاظم خسائر القطاع للعام الثاني على التوالي، والتي من المقدر أن تبلغ ما يقارب 60 مليار دولار العام الحالي، بخلاف 100 مليار تكبدها القطاع العام الماضي بسبب تداعيات فيروس كورونا.
ولن يتوقف أمر ارتفاع الأسعار المتوقع على أسعار السيارات الجديدة التي من المتوقع أن ترتفع أسعارها بنسب تتراوح من 10-15%، وإنما سيمتد كذلك إلى ارتفاع أسعار السيارات المستعملة التي ارتفعت أسعارها بالفعل أثناء الإغلاق الأول في أزمة كورنا، ومؤخراً أعلن رئيس اتحاد تجار السيارات في تركيا نيازي بيركتاش أن أزمة الرقائق أضيفت أيضاً إلى المشاكل العالمية في قطاع السيارات بسبب الوباء، والذي من شأنه أن يرفع أسعار السيارات المستعملة.
خبراء صناعة السيارات يؤكدون تعاظم خسائر القطاع للعام الثاني، والتي من المقدر أن تبلغ نحو 60 مليار دولار العام الحالي، بخلاف 100 مليار تكبدها القطاع العام الماضي بسبب تفشي كورونا
وفي مصر فوجئ المشاركون في مبادرة إحلال السيارات للعمل بالغاز الطبيعي التي أطلقتها وزارة المالية، باعتذار شركة جي بي أوتو عن عدم إمكانية تغطية كامل الأعداد المطلوبة منها من السيارات نظراً لأزمة تواجه شركة هيونداي العالمية بسبب الرقائق، علاوة على الأزمة التي طاولت ما يزيد عن 15 مصنعاً تعمل في تجميع السيارات في مصر، وهو الأمر الذي يدفع نحو التساؤل: لماذا لا تخطط مصر لامتلاك أو استقطاب مصنع لإنتاج الرقائق للإحلال محل الواردات.
كشفت أزمة كورونا عورات تقسيم العمل الدولي، وأن الاعتماد على إنتاج بعض السلع مهما كانت قيمتها في دول بعينها دونما توزيع واسع للإنتاج، يجعل العالم كله عرضة للتضرر حال إصابة أحد مراكز الإنتاج الرئيسية، وربما يعد ذلك أحد أهم الدروس المستفادة من أزمة كورونا، وسيشهد العالم قريباً إعادة توطين للكثير من الصناعات، وللأسف كل الدول العربية خارج الخريطة الإنتاجية الجديدة.