التوقعات المتشائمة تسيطر على مستقبل الاقتصاد المصري وحاضره. احتياطات النقد الأجنبي آخذة في الهبوط، الجنيه ينخفض من دون هوادة، الديون تتزايد، ومدود المشاريع التي امتصت مليارات الدولارات خلال السنوات الماضية لا تكفي لسداد العجز، فيما المستثمرين يهربون من حيازة السندات المصرية، ما يزيد طين المشكلات بلة.
فقد اتخذت وكالة ستاندرد أند بورز نظرة أكثر تشاؤماً لمالية مصر مقارنة بصندوق النقد الدولي، وتوقعت انخفاضاً إضافياً في قيمة العملة مع خفض النظرة المستقبلية للبلاد إلى سلبية.
على الرغم من توقع تدفقات صافية كافية لتغطية عجز الحساب الجاري لمصر خلال السنة المالية 2026، تتوقع ستاندرد آند بورز أن يبلغ متوسط احتياطيات البنك المركزي الإجمالية حوالي 32 مليار دولار، وهو نصف المستوى الذي يراه صندوق النقد الدولي، وقد ارتفع المخزون إلى أكثر من 34 مليار دولار في الأشهر الأخيرة.
توقعت وكالة ستاندرد آند بورز أيضاً أن العملة المحلية ستنخفض بنحو 53% بحلول نهاية السنة المالية الحالية حتى 30 يونيو/حزيران، من 12 شهراً قبل ذلك، "يتبعها انخفاض متواضع في السنوات اللاحقة"، حسبما قال المحللون بقيادة تريفور كولينان في بيان سابق.
وأكدت شركة التصنيف مصر عند B، سبع درجات أعلى من التخلف عن السداد وعلى قدم المساواة مع نيكاراغوا والجبل الأسود وأوغندا. ومن وجهة نظر ستاندرد آند بورز، "قد لا تغطي مصادر التمويل المصرية متطلبات التمويل الخارجي المرتفعة" في هذه السنة المالية والعام المقبل، والتي تقدرها بنحو 37 مليار دولار، وفق قراءة نشرتها وكالة "بلومبيرغ".
وحذرت من أن "عدم إحراز تقدم" في تنفيذ الإصلاحات التي تم الإعلان عنها في ديسمبر/كانون الأول الماضي يزيد من المخاطر التي قد يتسبب فيها الداعمون، بمن فيهم حلفاء الخليج الأثرياء، "في تأخير أو عدم تزويد مصر بالأموال المتفق عليها، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات على الواردات والتضخم وأسعار الفائدة والدين الحكومي ودفعات الفائدة".
حوالي 70% من الدين الحكومي في مصر محلي وبالعملة المحلية، وفقاً لوكالة ستاندرد آند بورز. ويقدر أن الحكومة توجه أكثر من خمسي جميع الإيرادات لمدفوعات الفوائد، وهي ثالث أعلى نسبة من بين 137 سيادية تقوم بتصنيفها على مستوى العالم.
تقييمات سلبية متواصلة
ستاندرد آند بورز هي ثالث مقيِّم ائتماني رئيسي يتخذ إجراءات سلبية بشأن مصر في الأشهر الأخيرة، حيث ساهمت التداعيات الاقتصادية للغزو الروسي لأوكرانيا في أسوأ أزمة للعملة في البلاد وأعلى معدل تضخم منذ سنوات.
تقول "بلومبيرغ" إنه في فبراير/شباط، خفضت وكالة موديز تصنيف ديون مصر إلى درجة أعمق في المنطقة غير المرغوب فيها، بعد قرار وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بتخفيض نظرتها إلى سلبية من مستقرة. في حين صنفت وكالة فيتش مصر فوق ستاندرد آند بورز بنقطة واحدة، فإن موديز لديها بالفعل درجة أقل عند B3.
التزمت الحكومة بالسماح بسعر صرف أكثر مرونة، مما يمكنها من إبرام صفقة بقيمة 3 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي. ومع ذلك، استمر انخفاض العملة في أعقاب فترات طويلة من الاستقرار.
وقالت وكالة ستاندرد آند بورز إن صندوق النقد الدولي لديه "نظرة أكثر تفاؤلاً" بشأن إجمالي الاحتياطيات المصرية "مع تحسّن ميزان المدفوعات وصرف تمويل البرنامج".
عملياً، بلغ متوسط التضخم 23% في السنة المالية 2023 وسيصل بحسب ستاند آند بورز إلى 18% في السنة المالية 2024، وفيما بلغ معدل النمو السنوي للأسعار 32.7% في مارس/آذار. وتشهد معدلات النمو الاقتصادي 4% في المتوسط على مدى السنوات الثلاث المقبلة؛ سيرتفع العجز الرئيسي للحكومة إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2023.
ويجب أن تتعافى السياحة تماماً إلى مستويات ما قبل الوباء هذا العام، مما يعني أن إيرادات الصناعة على ميزان المدفوعات يجب أن تزيد بالقرب من الذروة البالغة 13 مليار دولار التي تم تحقيقها في السنة المالية 2019، ومن المقرر أن يتقلص عجز الحساب الجاري إلى حوالي 13 مليار دولار في السنة المالية 2023 والبقاء حول هذا المستوى حتى السنة المالية 2026.
لكن في الوقت الحالي، يريد صندوق النقد الدولي من مصر أن تسن المزيد من الإجراءات واسعة النطاق التي تعهدت بها قبل إجراء المراجعة الأولى لبرنامج المساعدة الخاص بها، في انتظار رؤية صفقات خصخصة لأصول الدولة ومرونة حقيقية في العملة.
قلق المستثمرين
على الرغم من أن تداول الجنيه لم يتغير كثيراً في السوق الفورية، إلا أن القلق بين المستثمرين قد ازداد بشأن ما سيكون رابع تخفيض لقيمة العملة في مصر منذ مارس 2022. وقد ضعفت العملة بنحو 50% خلال العام الماضي.
قالت وكالة ستاندرد آند بورز إن أحد الأسباب الرئيسية لتعرّض العملة للضغط في الآونة الأخيرة هو أن الشركات "تخزن أرباحها من العملات الأجنبية، نظراً لعدم اليقين بشأن قيمة الجنيه المصري".
وشرحت أن الصناعات التي تربح العملة الصعبة تتشبث بالدولار، فإن سوق ما بين البنوك يشهد "توافراً محدوداً نسبياً" للعملات الأجنبية، لأن البنوك المحلية والدولية "كانت غير مرتاحة لمستوى عدم اليقين بشأن السياسة المالية". وقالت ستاندرد آند بورز: "هناك حالياً حركة محدودة يومية في سعر الصرف الرسمي". "نحن نتفهم أن هذا يرجع إلى الطلب المحدود، إذ يبدو أن المشاركين في السوق مترددوين في شراء العملات الأجنبية، في حين تنتشر شائعات عن مزيد من التخفيضات في قيمة العملة".
وبموازاة ذلك، حذر بنك الاستثمار العالمي غولدمان ساكس من تأثير أزمة الديون في مصر وتراجع آفاق الائتمان على اقتصادات الحكومات ذات العائد المرتفع في أماكن أخرى في إفريقيا.
ويشرح موقع "ذا فايننشال اكسبرس" أن النقص الحاد في الدولار أدى إلى كبح الواردات وتسبب في تراكم البضائع في الموانئ، مما كان له تأثير سلبي على الصناعة المحلية.
وتتوقع الحكومة أنه بحلول نهاية السنة المالية في يونيو ستصل الديون إلى 93% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مقياس ارتفع خلال السنوات القليلة الماضية والذي تريد خفضه إلى 75% بحلول عام 2026.
أدى عبء الديون الثقيل، وارتفاع أسعار الفائدة، وضعف العملة، إلى زيادة تكلفة خدمة الديون. من المتوقع أن تبتلع مدفوعات الفائدة على الديون أكثر من 45% من إجمالي الإيرادات في السنة المالية التي تنتهي في يونيو/حزيران المقبل.
بخلاف نفقات التكاليف العادية، بما في ذلك الرواتب والخدمات العامة، أنفقت مصر بشكل كبير على البنية التحتية، وهذا يشمل الإسكان وعددا من المدن الجديدة وبناء الطرق السريعة. وأبرز مشروع ضخم هو العاصمة الجديدة في الصحراء شرق القاهرة، وقال أحد المسؤولين إن الدولة تحاول دفع 58 مليار دولار من خلال بيع الأراضي والاستثمارات.
كما ارتفعت واردات مصر من الأسلحة خلال العقد الماضي، مما يجعلها ثالث أكبر مستورد على مستوى العالم، وفقاً لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
إجراءات ضد التضخم
وصنفت البيانات الرسمية حوالي 30% من السكان على أنهم فقراء قبل أن يضرب كوفيد-19، ويقول المحللون لـ"ذا فايننشال تايمز" إن الأرقام ارتفعت منذ ذلك الحين. يقدر أن 60% من مواطني مصر البالغ عددهم 104 ملايين نسمة هم تحت خط الفقر أو بالقرب منه.
انخفضت البطالة إلى ما يزيد قليلاً عن 7%، لكن المشاركة في سوق العمل انخفضت أيضاً بشكل مطرد في العقد حتى عام 2020. أجزاء من نظام التعليم العام في حالة انهيار. يسعى العديد من الخريجين الذين لديهم الفرصة للقيام بذلك إلى العمل في الخارج.
قالت وزارة المالية في بيان منذ يومين إن مصر رفعت تمويل برامج الحماية الاجتماعية الشاملة لديها بنسبة 48% للعام المالي 2023-24 إلى 529.7 مليار جنيه (17.1 مليار دولار) من 358.4 مليار جنيه في 2022-23.
تهدف الزيادة إلى تخفيف عبء المواطنين عن موجة التضخم العالمية التي أدت إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية. وقالت الوزارة إن دعم المواد الغذائية سيرتفع إلى 127.7 مليار جنيه في 2023/24 من 90 مليار جنيه. خصصت مصر 119.4 مليار جنيه لدعم الوقود في الموازنة الجديدة.
وقال جهاد أزعور، مدير صندوق النقد الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى، الأسبوع الماضي إن سعر الصرف المرن سيساعد في حماية الاقتصاد المصري من الصدمات الخارجية، ويجب أن تسمح الدولة للقطاع الخاص "بتحقيق النمو وخلق المزيد من العملات الأجنبية. وقالت كريستالينا جورجيفا، العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي الأسبوع الماضي، إن الصندوق يستعد لإجراء المراجعة للاقتصاد تمهيدا لصرف القرض، لكنها لم تحدد إطاراً زمنياً.