قبل أن تسارع وتهاجم عنوان المقال، إذا كنت مؤيّداً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أو تحتفي بالعنوان وتهلل له، إذا كنت من المناوئين للرجل والمعادين له، تعال أولاً لتفهم الحكاية من أولها، وبعدها احكم على العنوان.
الحكاية تبدأ من قصة سعر الفائدة، وهي قضية بالغة الأهمية في كل المجتمعات، سواء المتقدمة أو النامية، فعلى أساسها تتحدد تكلفة الأموال في المجتمع، وعلى أساسها يتم تحديد العائد الذي يحصل عليه أصحاب المدخرات عن إيداعاتهم في البنوك، كما تحدد سعر الفائدة الأموال الإضافية التي سيدفعها رجال الأعمال والمستثمرون في حال الحصول على قروض مصرفية لتمويل مشروعاتهم وتجارتهم.
وسعر الفائدة يدخل أيضاً ضمن العوامل التي تحدد قيمة العملة المحلية مقابل الدولار وغيره من العملات الرئيسية، فإذا أرادت دولة ما جذب المدخرين نحو عملتها الوطنية ودفعهم نحو التخلص أو تقليل الطلب على العملات الأجنبية، وفي مقدمتها الدولار واليورو والجنيه الإسترليني، هنا ترفع الدولة أسعار الفائدة على عملتها الوطنية لتجعلها أكثر جاذبية للاستثمار.
وسعر الفائدة له علاقة قوية وقصة طويلة مع أردوغان، فالرجل يصنف من قبل الغرب ومؤسساته المالية على أنه العدو الأول لرفع سعر الفائدة، وهذا حقيقي إلى حد كبير، فالرئيس التركي يحارب منذ توليه إدارة البلاد، رئيساً للوزراء ثم رئيساً، لخفض أسعار الفائدة في تركيا لأسباب عدة، منها أن أسعار الفائدة المنخفضة تشجع الاستثمار المباشر، وتوجه الأموال المودعة في البنوك نحو المشروعات والاستفادة منها بدلاً من تراكمها في خزائن البنوك.
كما أن خفض أسعار الفائدة يشجع رجال الأعمال والمستثمرين على الحصول على قروض رخيصة التكلفة قليلة العائد، وبالتالي يتشجع هؤلاء لإقامة مزيد من المشروعات وتوسيع المشروعات القائمة وإضافة خطوط إنتاج جديدة.
ومع زيادة المشروعات المقامة، خاصة في القطاع الصناعي والخدمي، تتحقق أهداف عدة أبرزها تراجع معدلات البطالة في المجتمع، وتراجع الأسعار بسبب زيادة إنتاج السلع والخدمات، والأهم من ذلك زيادة الصادرات، خاصة مع خفض تكلفة السلع المنتجة، وبالتالي جذب مزيد من الإيرادات النقدية الدولارية للبلاد، وهو ما يساهم في تحسن سعر العملة المحلية ويدعم استقرار سوق الصرف الأجنبي ومعه تتراجع قيمة الدولار أمام العملات الوطنية.
ولتحقيق هذه الأهداف يقاتل أردوغان لخفض سعر الفائدة في البنوك، ومن هنا يخرج من آن إلى آخر مطالباً البنوك بخفض الفائدة، ومن وقت لآخر يندد بأي مؤسسة تريد رفع سعر الفائدة على القروض وليس خفضها كما يريد هو، لكن هل قرار الخفض في يد أردوغان وحكومته؟
قد يتصور بعضهم أن القرار بيد الرجل، خاصة أنه المسؤول الأول في البلاد، وصاحب القول الفصل في القضايا السياسية، وأن من حق الرجل أن يعطي تعليمات للبنك المركزي التركي بخفض سعر الفائدة حسب رغبته، وقد لا يتطلب الأمر إعطاء تعليمات من الأصل، ففي النظم الديكتاتورية والفاشية تحول المؤسسات الرسمية خطابات وإيحاءات الرؤساء في المناسبات العامة إلى برامج عمل وخطط يتم تطبيقها على الفور من دون دراسة إذا ما كانت هذه التصريحات الرئاسية قابلة للتطبيق وفي مصلحة الاقتصاد والمواطن، أم أنها تصريحات سياسية اعلامية بهدف إرضاء الناخبين والمواطنين.
لكن هذا التصور غير صحيح في الدول المتقدمة التي تقرّ مبدأ فصل السلطات وتحترمه إلى حد التقديس، فالبنوك المركزية في كل دول العالم هي فقط من تحدد اتجاهات سعر الفائدة ضمن إدارتها السياسة النقدية، والبنوك المركزية تحدد سعر الفائدة بناء على معطيات اقتصادية ونقدية بحتة، فمثلاً إذا حدثت مضاربات على العملة الوطنية ومحاولات من قوى محلية وخارجية لخفض سعر صرفها مقابل الدولار، هنا ترفع البنوك المركزية سعر الفائدة لجذب المستثمرين نحو عملة بلادها عبر زيادة العائد عليها.
كذلك في حال حدوث تضخم عالٍ في الدولة، هنا ترفع البنوك المركزية سعر الفائدة حتى لا يهرب المدخرون نحو العملات الأجنبية، لأن التضخم العالي يعني تعرض أصحاب المدخرات لخسائر وفقدان جزء من مدخراتهم المحلية، خاصة إذا ما كان معدل التضخم يفوق أسعار الفائدة الممنوحة على الودائع، وهو من بين العوامل التي تدخل أيضاً في قرار تحديد معدل النمو الاقتصادي المستهدف من قبل الدولة، ومعدل السيولة داخل المجتمع، ومعدل طباعة النقود وغيرها.
ويوم السبت الماضي خرج علينا أردوغان بتصريح لافت يقول فيه إن معدل التضخم في بلاده سيتراجع فور خفض أسعار الفائدة، وقال "فور قيامنا بخفض أسعار الفائدة، والنظام الرئاسي سيحقق هذا، سيتراجع التضخم"، وقبلها بأيام قال "يجب أن ننقذ المستثمر من أسعار الفائدة المرتفعة، حتى يتسنى له ضخ الاستثمار. وعندما تكون هناك استثمارات سيكون هناك توظيف وإنتاج وتصدير".
ومع تكثيف أردوغان تصريحاته الداعية مراراً وتكراراً إلى خفض سعر الفائدة وتكلفة الاقتراض تصور كثيرون أن الرسالة وصلت إلى مسؤولي البنك المركزي التركي، وأن "الديكتاتور المستبد"، كما يصفه معارضوه، قد أعطى تعليمات حاسمة بخفض سعر الفائدة، وأنه أخرج "العين الحمراء" للبنك لتنفيذ تعليماته بلا نقاش، خاصة أن تركيا على أبواب انتخابات رئاسية وبرلمانية، والوقت حساس، وأردوغان بحاجة إلى إرضاء ناخبيه والقاعدة الشعبية له، هكذا رسم بعضهم السيناريو.
لكن الجميع فوجئ أمس الأربعاء برفع مجلس إدارة البنك المركزي التركي أسعار الفائدة الأربعة المستخدمة في تحديد سياسته النقدية بأكثر من المتوقع وليس خفضها، حسب تعبير وكالة رويترز، إذ بلغت الزيادة 75 نقطة أساس، فقد رفع البنك نافذة السيولة المتأخرة إلى 13.50% مقابل 12.75%، كما أبقى البنك المركزي على سعر إعادة الشراء (الريبو) من دون تغيير عند 8%، ولم يخفضه كما طالب أردوغان عدة مرات.
بالطبع، صدم البعض من جرأة البنك المركزي على مخالفة تعليمات أردوغان، لكن البنك أثبت استقلالية في قراره وإدارته للسياسة النقدية بعيداً عن الاعتبارات السياسية، وفي نفس الوقت احترم أردوغان قانون استقلالية البنك المركزي، ولم يتدخل في قرارات السلطة النقدية.
هذا هو أردوغان الديكتاتور المستبد، ليت حكامنا في المنطقة يحترمون استقلالية البنوك المركزية العربية، وتطبق دولنا مبدأ الفصل بين السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية كما فعل أردوغان.