يشكّل السكان في الوطن العربي أكثر من 5% من مجموع سكّان العالم، لكن ليس لديهم سوى 1% من مصادر المياه المتاحة فيه.
بهذه الجملة، افتُتِح تقرير للصندوق الدولي للتنمية الزراعية التابع للأمم المتحدة (IFAD). وبسبب التغير المناخي، وجائحة كوفيد، فإن الوطن العربي مرشح لمزيد من شُحّ المياه في المستقبل، وستحدُث معضلة مأساوية إن استمر الحال على هذا المنوال لفترة مقبلة.
وقد ورد خبران مهمان في نهاية الأسبوع الماضي، ولهما علاقة بموضوع المياه واشتداد أزمتها. الأول أن البنك الدولي ينظر في تمويل مشروع تحسين خدمات المياه وفاعليتها في الأردن. وبات واضحاً الآن أن توزيع المياه الدوري على مختلف المناطق قد بدأ يؤثر على رفاه الأسر الأردنية، والتي تضطر لشراء المياه من الآبار الخاصة بواسطة الشاحنات، بأسعارٍ تتراوح بين أربعة إلى ستة أضعاف سعرها الرسمي.
وهناك تهتّك كبير في الشبكات، واعتداءات بالآلاف على مصادر المياه سواء بحفر الآبار غير المرخصة، أو بأخذ مياه القنوات المفتوحة للري، أو عن طريق الاعتداء المباشر على خطوط المياه الرئيسية.
لا يقتصر السبب على نقص المتاح من المياه، لكن لأنّ الطلب قفز إلى منحنيات أعلى بسبب الزيادة الكبيرة في سكان الأردن منذ عام 2011، أو انطلاقة الربيع العربي. ويقدر عدد السكان (المواطنون والمقيمون) بحوالي 13 مليون نسمة، وهو رقم كان من المتوقع أن يصله الأردن وفق المعدلات الطبيعية لمعدلات الولادة والوفاة والهجرة الصافية عام 2035 أو بعد ذلك. إذاً، ضاعت على الأردن حوالي 15 سنة من التخطيط والاستيعاب والاستجابة المنهجية لهذه الزيادة.
وبسبب توزيع السكان، إذ يقطن الأردنيون مساحة لا تتجاوز 15% من مساحة الأردن الكلية، وتستوعب المدن الكبرى الثلاث، عَمّان والزرقاء وإربد، أكثر من ثلثي السكان، فإنّ هذا بالطبع يجعل هذه المدن الثلاث عرضة لشحّ المياه. ولذلك، ينظر الأردن إلى زيادة موارده المائية، خصوصاً في ظلّ الدراسات المناخية المستقبلية التي تتوقع تراجعاً في معدلات المطر، من ثلاثة مصادر: الأول تحلية مياه البحر، والثاني استخدام المياه الجوفية العميقة، والثالث إعادة التدوير. وجميع هذه المشروعات مستهلكة عالية للطاقة (الكهرباء)، ويستهلك ضخ المياه وتنقيتها وتوزيعها حالياً أكثر من 20% من الكهرباء المستهلكة سنوياً في الأردن. ولهذا، أي كأس ماء يشربه الأردني حالياً سيستبدله بكأس أعلى كلفة وأغلى ثمناً. وهذا يعني أنّ سعر المياه الرسمي والمدعوم سوف يرتفع، في ضوء ارتفاع أسعار الطاقة وتكاليفها.ومن ناحية أخرى، لهذا التطور آثارٌ على قدرة الأردن على تطوير قطاعه الزراعي، خصوصاً في المحاصيل الحقلية المروية، وفي تربية الماشية. وهذا يفُتُّ في عضد الجهود الحثيثة المبذولة لتطوير القطاع الزراعي، وتحسين فاعليته، وتنويع منتجاته.
أما الخبر الثاني فهو تقدّم مصر بشكوى إلى الأمم المتحدة ضد إثيوبيا التي تبدو عازمة ومصممة على أن تكمل المراحل النهائية من تعبئة سد النهضة العظيم، والذي بدأ تنفيذه عام 2011، وأنجزت المرحلتين الأولى والثانية. ومن المتوقع أن يستغرق بناؤه عدة سنوات. والهدف منه هو إنتاج كهرباء بمقدار 5.15 جيجاوات. ما سيجعله أكبر مشروع توليد كهرومائي في إفريقيا.
ويتطلب السدّ تعبئة بحيرة (تسمى البحيرة المئوية) بمساحة ستين مليون فدان (حوالي 250 مليون دونم)، وتبلغ مساحة سطحها 1874 كيلومتراً مربعاً، وبعمق يصل في أقصاه إلى 140 متراً. وبهذه القياسات، سوف تؤثر التعبئة الثالثة على انسياب نهر النيل الأزرق المقام عليه السد، والذي يرفد حوالي 80% من مياه نهر النيل مقابل 20% فقط لنهر النيل الأبيض... وكما قال المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت: إن التاريخ والجغرافيا يسيران يداً بيد على ضفاف النيل، مصر هي هبة ذلك النهر العظيم.
لقد أظهرت أزمة الحرب في أوكرانيا أن مصر منكشفة في بعض المحاصيل الأساسية، خصوصاً القمح، الذي تبذل مصر في إنتاجه جهوداً كبيرة، ولكن الطلب يتزايد بسبب الزيادة الكبيرة في السكان، وبسبب زيادة استهلاك المواطنين الخبز بأشكال مختلفة مع ارتفاع معدلات النمو. بينما تصر الطبقات الفقيرة ودون المتوسطة على استهلاك الخبز، لأن الطلب عليه يزداد لدى الأقل دخلاً، حين يكون استهلاكهم أقل تنوعاً وأكثر تركيزاً على الخبز (العيش)، وخصوصاً المدعوم.
مصر بحاجة إلى استيراد 10-11 مليون طن من القمح سنوياً، لتكمل حاجتها منه والبالغة 21 مليون طن سنوياً، والمرشّحة للزيادة في السنوات المقبلة. ولذلك هم بحاجة للمياه للانتقال إلى الأماكن الأقل خصوبة لزراعتها، بسبب أن الأراضي الخصبة قد استخدمت للزراعة المكثفة أو للبناء، كما حصل في منطقة الدلتا. ولهذا، مصر بحاجة إلى مزيد من المياه. وبسبب ما جرى من إعمار للمباني السكنية، والمولات، والأسواق، والمكاتب، يزداد الطلب المنزلي بنسب سنوية متزايدة في ضوء التمدّدين العمراني والمدني.
فما الحل للأزمة؟
واضح أنّ مصر بحاجة قريباً إلى استراتيجية مياه جديدة. ولربما لن يسمح العالم بحصول حرب بين البلدين، مصر وإثيوبيا، خصوصاً أن السودان الفاصل بينهما يعاني ما يعانيه من مشكلات واضطرابات. والوضع الدولي الراهن لن يسمح لمثل هذه الحرب بالوقوع. وفكرة ضرب سد النهضة جواً سيكون لها عواقب وخيمة، لأن العالم لم ينس بعد المجاعات التي عانت منها إثيوبيا، خصوصاً إبان عهد الديكتاتور منغستو هيلا ميريام في ثمانينيات القرن الماضي.
هذه عينة لبلدين مستقرّين، الأردن ومصر. وقد طلب الأردن مياهاً إضافية من إسرائيل ومن سورية. وباعت الأولى مياهاً، ورفضت الثانية لظروفها المائية الصعبة. وقس على ذلك ضياع نهري دجلة والفرات في العراق وسورية بسبب سد أتاتورك (أو سدود أتاتورك)، وانهيار المنظومة المائية في كلا البلدين. والنهر العظيم في ليبيا لا يقدّم حلولاً مائية، والخليج بحاجة إلى مشاريع تحلية بالطاقة المتاحة لديه.
لو أنّ العرب يبنون منظومة تعاون في الطاقة والمياه، لكان في ذلك خيرٌ عميمٌ للجميع.