"اللامساواة تقتل"

27 يناير 2022
أطفال يمنيون يحصلون على مساعدات غذائية من جمعية خيرية محلية (فرانس برس)
+ الخط -

عشرة أشخاص من أصحاب البلايين "المليارات" تمكنوا في العامين الأولين من تفشي جائحة كورونا، 2020-2021، من مضاعفة ثرواتهم الشخصية من 750 مليار دولار إلى 1.5 تريليون دولار، أو بما يساوي 15 ألف دولار في الثانية أو 1.3 مليار دولار كل يوم. وفي الوقت نفسه، هبطت حظوظ 99% من سكان العالم وثرواتهم، ودخل حوالي 160 مليون فرد إلى صفوف الفقراء.

هذه كانت أبرز المعلومات الصادرة عن منظمة أوكسفام (Oxfam) وهي حركة عالمية تسعى للتغلب على الفقر واللامساواة وذلك في تقريرها الصادر يوم 17 من شهر يناير/ كانون الثاني الحالي.

و"أوكسفام" منظمة خيرية أُنشئت عام 1942 في بريطانيا لإنهاء الجوع والحد من الفقر حول العالم، وغيرت حياة الكثيرين من الناس. وفي عام 1948، فتحت أول متاجرها في المملكة المتحدة.

ولكن قامت بعد ذلك (أوكسفام الدولية) عام 1995 كهيئة مستقلة تتخذ من نيروبي، عاصمة كينيا، مقرّاً لها. وهدفها المعلن وضع حلول دائمة لمكافحة الفقر، والجوع والظلم، علماً أن هدفها لمّا أنشئت في بريطانيا عام 1942 تركز على مقاومة المجاعة إبّان فترة الحرب العالمية الثانية " 1939-1945".

وفي العودة إلى التقرير الذي صدر عن المنظمة موسوماً بـ "اللامساواة تقتل" (Inequality Kills)، فإنه يؤكد أنه لو فقد أغنى عشرة رجال في العالم 99.999% من ثروتهم، أي لو لم يبق لكل واحد منهم سوى 1...% (واحد في الألف في المائة) من ثروته الحالية، فإنهم سيبقون أغنى من 99% من الأشخاص في العالم.

تسبّبت هذه اللامساواة الفادحة والفاحشة في الثروة، حسب تقرير "أوكسفام" في موت 21 ألف شخص في اليوم. ومن وجهة نظر التقرير، لا يعكس هذا الرقم العدد الحقيقي لمن يموتون في العالم نتيجة الحرمان من العناية الصحية والعنف ضد النساء، والجوع، وانهيار البيئة.

تذكّرنا هذه الصورة الظلامية التي يعكسها التقرير الدولي بالغياب الخلقي والمسؤولية التكافلية في العالم. وأشير هنا إلى أن مثل هذه الفجوة الشاسعة التي تفصل الفقراء عن الأغنياء تذكّرنا بالآية الكريمة "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (الآية 16 سورة الإسراء). وحتى تذكّرنا ببيت الشاعر أحمد شوقي في قصيدة ولد الهدى:

أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى/ فالكل في حقّ الحياة سواءُ.

ولا يخرج تقرير "أوكسفام" عن الحقيقتين الماثلتين في الآية الكريمة، وفي بيت الشعر لأحمد شوقي.

أوكسفام : مقدار التلوث الذي يسبّبه أحد الأغنياء الكبار في العالم يعادل مائة ألف مرّة مقدار التلوث الناتج عن الفرد العادي

ويتحدّث التقرير ليس فقط عن ارتفاع نسب الوفيات بسبب الفقر، ولكن أيضاً عن التفاوت الكبير بين إنفاق الأغنياء والفقراء على الطاقة ووسائل استهلاكها.

ويقدّر التقرير أن مقدار التلوث الذي يسبّبه أحد الأغنياء الكبار في العالم يعادل مائة ألف مرّة مقدار التلوث الناتج عن الفرد العادي.

ويقول التقرير إن البنوك المركزية، بضخّها تريليونات الدولارات في أسواقها، حتى تحافظ على حيوية الاقتصاد لم تنتبه أن معظم هذه السيولة قد آلت، في نهاية المطاف، إلى حساب الشركات الكبرى، مثل شركات الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي، والأدوية، وتجّار العقار، ما سبّب لهم تخمةً مالية.

وفي المقابل، يعطي حصر الثروة في أيد قليلة هذه الأيدي قوة احتكارية خارقة تمكّنها من التحكم في الأسواق، سواء دخلت مشترية أو دخلت السوق بائعة. وهي في كلا الطرفين مستفيدة كالمنشار، كما يقول المثل "طالعة واكِله، نازله واكِله".

والصبر على حالٍ كهذا لا يمكن أن يستمر، فقد رأينا مثلاً بعد الثورة الصناعية الأولى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حصول أمر مشابه، تركّز الثروة في أيدي قلة من الأشخاص، ولكن سوء التوزيع لم يصل إلى الحد الذي نراه في القرن الحادي والعشرين والثاني والعشرين.

وبسبب تركز الثروة، وزيادة الأرباح، وتراجع الأجور، وازدياد معدلات البطالة، فإن الفرق كله يذهب دخولاً إلى الأغنياء. وفي لغة كارل ماركس في كتابه "رأس المال"، فإن نسبة الاستغلال (exploitation rate) ترتفع.

بسبب تركز الثروة، وزيادة الأرباح، وتراجع الأجور، وازدياد معدلات البطالة، فإن الفرق كله يذهب دخولاً إلى الأغنياء

وقد رأينا أن العالم لم يخرج من حالة التفاوت الكبير في الدخل والثروة إلا بعد فتن كبرى، وحروب طاحنة، وانقلابات في الانظمة السياسية في روسيا، وبروز حركات عمالية عنيفة، وكساد كبير تخلل الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.

ولكن مهمة تغيير هذا الحال قد تكون أصعب بكثير في الوقت الحاضر، بسبب التفوق التكنولوجي السيبراني، والقدرة على استبدال الجنود بالروبوت والطائرات بدون طيار، والصواريخ الدقيقة العابرة للمسافات والقادرة على حمل رؤوسٍ نووية.

وكذلك نرى أن مظاهر الغنى تتركّز في الدول العظمى التي يوجد فيها الأثرياء، وليس فاحشي الثراء فحسب، فالصين التي كانت تتبنّى الفلسفة الشيوعية هي الآن أكبر منتج للرأسماليين الجدد، وكذلك روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991. إذن، ربما تأتي الثورة داخل الدول النامية التي تزداد فقراً، وليس عندها القدرة لمحاربة الكبار.

موقف
التحديثات الحية

الحل أن تحارب الدول الغنية عمليات تهريب الأموال، وترفع الضرائب على الأثرياء، وتعيد إنفاقها على الفقراء، وتبني نظام إنتاج عالمي عادل، وتعيد توزيع تقسيم العمل الدولي، حتى يكون للفقراء نصيب في العمل والحياة الكريمة. لقد تحولت العولمة إلى سلاح حادّ للتمييز، والتفاوت، وزيادة الفقر، وتدهور الحياة كما نعرفها.

يرسم تقرير "أوكسفام" الموسوم "اللامساواة تقتل" صورة قاتمة جداً، وهو بحق يفتح علينا أبواب جهنم ويقرع الجرس محذّراً من الأخطار المقبلة.

المساهمون