"لقد بدأتُ في كتابة الشعر عندما كان عمري حوالي أربع سنوات. وبعبارة أخرى، كنتُ دائماً أكتب الشعر"، بهذه العبارة يتحدّث الشاعر النيكاراغوي إرنستو كاردينال (1925 - 2020) الذي رحل منذ أيام، عن علاقته بالقصيدة، في مقابلة أجرتها معه مجلّة "كومونويل" الأميركية، منتصف سبعينيات القرن الماضي.
وكما معظّم كتّاب جيله في أميركا اللاتينية، تأثّر كاردينال بتجارب أساسية في المشهد الشعري الغربي، وفق ما أشار، إلّا أنه كان يريد لشعره أن يصل إلى جميع الناس، وأن يستمدّ موضوعاته من ذاكرتهم البعيدة التي تشترك مع ظروفهم السياسية والاقتصادية الراهنة، لذلك كتب عن اشتراكية شعوب الإنكا التي أسّست إمبراطوريتها غرب أميركا الجنوبية، مؤمناً بأن أثرها لن يزول.
ولم يفصل صاحب "مزامير النضال والتحرير" (1971)، الذي وُلد ونشأ في عائلة ثرية، بين إيمانه بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية كنموذج اقتصادي دافع عنه حتى رحيله، وبين تحرُّر الإنسان وخلاصه من الاستلاب والهيمنة على ثقافته وسلوكه ونمط حياته، وكذلك انتمائه إلى حضاراته القديمة، حيث كرّس العديد من قصائده للحديث عن حكمة القبائل الأصلية في الأميركتيْن وتصوّفها وروحانيتها وطقوسها.
"الحكمة" هي الخلاصة التي سعى إليها في شعره، وكان يراها مزيجاً من النبوّة التي تُرشِد الناس إلى الخير والجمال في كلّ مكان، وبين قوّتها ككلمة تمثّل شخصياتهم وتاريخ أمّتهم، وأن تكون القصيدة شفاء لهم وأن تشكّل معنى يلجأون إليه في حياتهم وتخدمهم في بناء مجتمع جديد، وتتمثّل هذه الرؤية في عدد من قصائده؛ منها: "هنا كان يمشي على قدميه في هذه الشوارع"، التي نقلتها إلى العربية المترجمة والكاتبة غدير أبو سنينة، ويقول فيها:
"كان يعبرُ الشارعَ ماشياً على قدميه/ دون عملٍ، دون نقود/ الشعراء والعاهرات والمذنبون فقط/ قرأوا قصائده/ لم يُهاجر يوماً/ كان معتقلاً/ هو ميت الآن/ ليس له أيُّ أثر../ لكن/ تذكَّروه عندما تبنون جسوراً خرسانيَّة/ مُحرِّكاتٍ ضخمةٍ، وجرَّارات، ومخازن فضَّة،/ وحكوماتٍ جيدة/ لأنَّه طَهَّر في قصائدهِ لغة قومهِ/ التي سيكتبون بها يوماً عُقود التِّجارة/ الدستور، رسائل الحب والقرارات".
ورغم أن كاردينال، الذي درس الفلسفة والأدب في "جامعة كولومبيا"، كتب قصائد تغلب على مضامينها حالات الحب في فترة مبكرة من حياته، إلا أنه لم يكن مهتماً بـ"الشعر من أجل الشعر" أو بـ"غنائيته"، بحسب تصريحاته المتكرّرة، وظلّ ينظّر للشعر ضمن وظيفته السياسية الاجتماعية، أو وظيفته الرسالية التي لا ترى الكتابة خارج المعنى.
كانت قصائده تُتلى كنشيد في العديد من بلدان أميركا اللاتينية منذ الستينيات، وحفظها الطلّاب والعمّال والعجائز والمهمّشون والسياسيّون وحتى رجال الدين، ربما ساهم في تعزيز ذلك صورته بلباس الرهبانية الأبيض المتقشّف وهو يلقي كلماته بحماسة وثقة، عن الله الذي يساند الفقراء في ثورتهم ضدّ الظلم والاستغلال والدكتاتورية، وأنه ليس عليهم انتظار وعود مؤجلّة في السماء، لكن دراسات عديدة صدرت حول سيرته أظهرت انتقاداته أيضاً للعنف المفرط الذي كانت تلجأ إليه ثورة "الساندينيستا".
انعكست قناعاته هذه على العمل السياسي أيضاً من خلال مواجهته الدائمة مع السلطة، غير مبالٍ بموقعه في تراتبيتها، منذ أن كان كاهناً في الكنيسة وأعلن ثورته عام 1983 في وجه الفاتيكان إبّان عهد البابا يوحنا بولس الثاني الذي استنكر عليه تأسيسه "لاهوت التحرير" وانخراطه فيه، فأتى احتجاجه من داخل المؤسّسة التي كان يمكنه الوصول داخلها إلى أعلى المواقع، لا انشقاقاً عليها وتخلّياً عن التزامه، ما عرّضه إلى انتقادات وتضييقات كان سيظلُّ بمنأى عنها لو قرّر الصمت أو الخروج عن الكنيسة التي عادت لتعفو عنه قبل نحو عام من رحيله.
وبالمثل، وجّه صاحب "نهاية العالم وقصائد أخرى" (1974) انتقاداته الجذرية إلى رفيق دربه في النضال، دانييل أورتيغا، الذي مارس تسلّطه عبر "حكم العائلة" على حدّ وصف كاردينال، ودافع عن مشروعه الذي أطلقه في جزيرة سولينتينامي منذ عقودٍ عديدة ومحاولة السلطة إغلاقه، وأعلن خيبة أمله ومعارضته الشديدة لما آلت إليه الثورة السندينية التي شارك في قيادتها، ورصد التحوّلات الكبرى في مسارها، سواء في تصريحاته الصحافية أو في مذكّراته الشخصية التي نشرها في عدّة أجزاء.
يتجلّى تمسّكه بمُثُله ومبادئه التي ناضل من أجلها أكثر من سبعة عقود، في قصيدته "المزمور الخامس (أصغ لكلماتي يا رب)" التي ترجمتها أيضاً غدير أبو سنينة، وفيها يكتب:
"لكلماتي أصغِ يا رب/ أنصت لآهاتي/ اسمع احتجاجي/ لأنك أنت لست إلهاً يُصادق الطُّغاة/ ولا يؤيّد سياستهم/ ولا يتأثَّرُ بأعلامهم/ ولست شريكاً للعصابات/ لأنَّه ليس في خُطبهم ولا تصريحاتهم الصحافية صدق/ يتحدَّثون عن السَّلام في خُطبهم/ بينما يُشعلون الحروب/ يتحدَّثون عن السَّلام في مؤتمرات السلام/ وسرَّا يستعدُّون للحروب/ راديوهاتهم الكاذبة/ تهدرُ طوال الليل/ مكاتبهم ملأى بالخطط الإجرامية/ والمؤامرات الكارثية/ لكنك أنقذتني من حِيَلِهم/ يتحدَّثون بأفواه بنادق/ ألسنتهم حرابٌ لامعة../ عاقبهم يا رب/ أَحبط سياستهم/ شَوّش مذكراتهم/ امنع برامجهم/ وعندما تعلو صفَّارات الإنذار/ ستكون معي/ ستكون ملجئي يوم انفجار القنبلة/ الذي لا يؤمن بأكاذيبهم في إعلاناتهم التجارية/ وحملاتهم الدعائيَّة/ ولا يصدِّق تصريحاتهم السياسية؛ أنت من سيباركه/ وسيكون حبّك الذي تحيطه به/ دبابته المدرعة".
لم يتوّقّف عن الاحتجاج حتى آخر لحظة من حياته، حيث أيّد الحراك الشعبي في بلاده الذي اندلع عام 2018، ضد تغيير قانون الضمان الاجتماعي الذي يضرّ بكثير من الطبقات الفقيرة، واتسع لاحقاً حتى وصل إلى المطالبة باستقالة أورتيغا، وتحضر اليوم عبارته التي قالها ذات مرّةً: "دع العالم كلّه يعرف ما يحدث في نيكاراغوا".