الشائع في الثقافة أن يكون الكاتب الروائي أو الشاعر منحازاً إلى الجانب الإنساني من العلاقات البشرية، وأن تكون فكرة الحرية لها الأولوية على غيرها من الأفكار المتزمّتة الناجمة عن التعصُّب الوطني أو القومي أو الطائفي. غير أن تاريخ الثقافة يثبت أن الكاتب لم يكن كذلك دائماً، وأنَّ العشرات من الكتّاب "الكبار" الذين لا يزالون يعبرون القارات فكرياً، قد ارتكبوا مواقف دنيئة دافعوا فيها عن الحكّام الطغاة، أو أيّدوا احتلال بلدانهم لغيرها من البلدان والشعوب.
فمن بين الذين رفضوا الإفراج عن الأمير عبد القادر الجزائري بعد أن اعتقلته فرنسا في القرن التاسع عشر، كان الشاعر الفونس دو لامارتين والروائي فيكتور هيغو. كان لامارتين آنذاك رئيساً مؤقّتاً لدولة فرنسا، وقد طالب بإبقاء الأمير أسيراً في إحدى القلاع بمدينة طولون خلافاً للمعاهدة التي أشارت إلى حريته في اختيار منفاه، "لأن وجوده في الشرق سيكون أشد خطراً على فرنسا من وجوده طليقاً". هكذا قال الرئيس الشاعر.
ويذكر فوّاز طرابلسي في كتابه "حرير وحديد" أنَّ فيكتور هيغو انبرى يعارض الإفراج عن الأمير عبد القادر أيضاً حين تقدّم أحد ما بطلب آخر في سنة تالية. اللافت أن صاحب رواية "البؤساء" الشهيرة، قال أيضاً: "يجب الاحتفاظ بالجزائر كلّها لأننا سوف نحمل إليها الحضارة". وهكذا فإن الشاعر الرومانسي الذي كتب قصيدة "البحيرة" التي اشتهر بها بيننا نحن العرب إذ تُرجمت أكثر من مرة إلى لغتنا، و"شاعر فرنسا الكبير، الروائي والمنافح عن حقوق الإنسان وداعية إلغاء العبودية وحكم الإعدام ونصير العدالة الاجتماعية"، وقفا ضدّ حرية المقاتل من أجل الحرية.
وفي عصرنا، يُنكر بيتر هاندكه جرائم الحرب التي ارتُكبت في البوسنة، وقد تُرجمت إلى اللغة العربية العديد من رواياته في فترات مختلفة، دون أن يلاحظ أحد من النقّاد أو الصحافيّين موضوع انحيازه السياسي الفاضح إلى جانب العنصريّين الذين ارتكبوا جرائم الإبادة الجماعية. لا نزال اليوم أمام المعضلة ذاتها، ففي خضم الثورات العربية رأينا روائيّين وشعراء عرباً، ومنهم من يُسجَّل اسمه في التصنيف الذي يسميهم الشعراء أو الروائيّين "الكبار"، يعلنون صراحة موقفهم المناهض لثورات الشعوب العربية.
القضية الأهم هي إذا ما كان أحد هؤلاء وظّف إبداعه، في الرواية أو الشعر أو المسرح أو الموسيقى، للتعبير عن موقفه المعادي للإنسان، أي أننا بحاجة لدراسة أدب هؤلاء للتعرُّف إلى الظلال التي انعكس من خلالها موقفهم السياسي على مضمون إبداعهم. (هناك من يدعو اليوم للامتناع عن قراءة أدونيس أو سعدي يوسف بسبب موقفهما السياسي). أين وفي أي قصيدة من شعر لامارتين توفّرت تلك الإرادة المتناقضة التي سمحت له أن يُصغي إلى الحرية ومطالبها في بلاده، ويصمّ أذنيه عن نداءاتها في الجزائر؟ وأين يمكن البحث في روايات فيكتور هيغو عن هذه الثنائية؟
في العادة، تُترَك بعض المسائل الفكرية والأخلاقية العالقة لعدالة التاريخ، والمشكلة هي أننا لا نعلم متى يمكن لهذا القاضي أن يكون عادلاً.
* روائي سوري