الأخ الأكبر

20 سبتمبر 2019
عادل داوود/ سورية
+ الخط -

عندما ترجم مصطفى صفوان "مقالة في العبودية المختارة" لـ إيتيان دي لابويسيه الفرنسي، ونشرها في مجلة "الكرمل" في القرن الماضي، أُصبنا بما يشبه الصدمة، إذ إن الصورة التي يقدمها لا بويسيه في تلك المقالة (وقد تُرجمت إلى العربية مرة ثانية وثالثة من قبل مترجمين آخرين، وصدرت في كتب مستقلة)، هي عن الشعب لا عن الطاغية، ويكاد الطاغية يختفي تماماً من المقالة، بينما تنشغل المقالة بالكلام عن الناس الذين يشاركون في صناعته حين يرضخون له.

والصورة في تلك المقالة تثير الذعر من أن تكون صناعة الطاغية تمريناً شعبياً شبه أبديٍّ في حقيقته، وذلك حين يقول: "لست أبتغي إلا أن أفهم كيف أمكن لهذا العدد من الناس، أن يحتملوا طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه".

والطريف أن تكون قصيدة خليل مطران الشهيرة عن نيرون ترجمة شبه حرفية لما جاء في مقالة لابويسيه هذه: "ذلك الشعب الذي أتاه نصراً/ هو بالسبّة من نيرون أحرى/ أيّ شيءٍ كان نيرون الذي/ عبدوه، كان فظَّ الطبع غِرّاً/ ضخّموه وأطالوا فيئه/ فترامى يملأ الآفاق فُجْراً".

غير أن مقالة لابويسيه لم تستطع التفوّق على رواية "1948" لـ جورج أورويل، فقد تصدّرت هذه الرواية الكلام عن الطاغية لا عن الشعب، وربما كان أورويل قد رسّخ اتجاهاً روائياً انشغلت فيه الرواية بالبحث عن الصور المتعددة للدكتاتور. الملاحظ أنَّ الأخ الأكبر لا يظهر في رواية أورويل كشخصية، بل كصورة تلفزيونية مصاحبة للوجود اليومي للبشر، فتظهر النتائج التي تتركها سياسته ومنهجه في الحكم بين المحكومين.

وعلى الرغم من أن الناس يظهرون خائفين من أي ملمح أو إشارة يمكن أن تدل على الاحتجاج أو الاعتراض في الرواية، أو يبدون مثل الدمى التي تحرّكها قوة خارجية هي الحزب، أو يبدون كالنملة التي تستطيع أن ترى الأشياء الصغيرة، ولا ترى الأشياء الكبيرة، وهم لا يتذكرون إلّا أتفه الأشياء، كما يقول وينستون سميث الشخصية الرئيسية في العمل عنهم؛ فإن رواية أورويل باتت مجازاً فكرياً وثقافياً لم يعد من الممكن لأحد أن ينتزع منها هذا الحضور بوصفها التعبير الأمثل عن السلطة المطلقة وهي في طور الحكم الممسك بكل مفاصل الحياة اليومية للبشر، أو عن الإرهاب العسكري أو السياسي.

وقد أمسك أورويل بالسنوات السبعين الماضية كلّها تقريباً، وخاصة أن القرن العشرين قد شهد نشأة الدكتاتوريات بكثرة ملحوظة استطاع أورويل أن يلخصها كلّها في صورة الأخ الأكبر التي تسيطر على عالم روايته الشهيرة "1948". وصار على النقد الأدبي، أو التحليل السياسي، أو المطالعات الصحفية، أو الأحاديث المتبادلة بين أصدقاء أن تستخدم صورة الأخ الأكبر كما سمّاه، للتعبير عن قوة السلطة. بل إن الأخ الأكبر صار يدخل إلى الشفرات الكلامية، ورسائل وسائل التواصل الاجتماعي، كمساعد توضيحي ورمزي لما قد لا يريد المتراسلون أن يقولوه علناً.

المساهمون