تعليقان يرافقان معرضَ الفنانة السويسرية ليليان توماسكو (1967)، المُقام منذ الثامن من آذار/ مارس الماضي وحتى بعد غد السبت في "صالة كرلن" بـ دبلن، هما أكثر إثارةً من عنوان المعرض نفسه "الخيط الأحمر"، ومن أسماء لوحاتها التجريدية ("حلم نظام فوضى"، و"حلم إضاءة الظلمة"...).
جاء الأول في إشارة الشاعرة والناقدة الفنية الإنكليزية سو هابارد إلى أن اللوحات "تعرض رحيلاً من التناغم إلى التنافر، ومن الصمت إلى الضجيج، ومن الوضوح إلى الغموض". أمّا الثاني فمصدره الاعتقاد الذي عبّرت الفنانة ذاتها عنه بالقول: "يستطيع فن الرسم الكشف عن وجودنا وحضورنا من دون الحاجة إلى أن يكون وصفياً، لأنه يترك لنا مكاناً للحدس واستخدام أحاسيسنا".
المثير في كلا التعليقين أن الحديث هنا يدور عن فن "تجريدي"، أي غير وصفي، بمعنى أنه لا يصف مشهداً أو موضوعاً ملموساً في الواقع من حولنا، فكيف يكشف مجرّدٌ لا يعكس ملامح الواقع المرئي، وجودنا، وكيف يدل على حضورنا الملموس بطبيعته؟ وما معنى هذا الرحيل بين النقائض؛ بين التناغم والتنافر، والصمت والضجيج، والوضوح والغموض؟
للإجابة على هذين السؤالين، وأي أسئلة مماثلة قد تلحق بهما، يفضّل بالطبع الدخول إلى صالة العرض ذاتها، وملاحظة الكيفية التي صاغت بها الفنانة لغةً تجريدية فريدة ومميّزة، باستخدام مادة للرسم ذات جذور في البيئة المحلية. تقول لنا هذه الصياغة إن ما يجري هنا بوسائط الرسم والنحت والصور الفوتوغرافية هو استكشاف مادية مختلف أنواع المنسوجات المستخدمة في البيوت، مثل الملابس والستائر والأغطية والحصائر. وبهذا الاستكشاف، تقرّب الفنانة بيننا وبين جوهر مادة الأشياء، وتجعلنا ننغمر في خطوط وروافع المنسوجات للكشف عن واقعها الأعمق وأصدائها.
معنى هذا السعي هو بالتحديد ما يحمله القول المعروف الذي يردّده أكثر من فنان معني بالتجريد؛ وضع المشاهد أمام ما وراء الظاهر والمرئي، أو ما تخفيه أكوام ما لا يلزم، حين نزيل كل ما لا يلزم سواء كان كلاماً أو أصواتاً أو صوراً.
الواضح أن التجريد معنيٌّ بالاختصار، أي بحذف كل ما يمكن حذفه من مرئيات بصرية واقعية تضعنا دائماً في مواجهة حضور واقع أصم لا يوحي ولا يفتح المجال أمام استخدامنا لأحاسيسنا. وهذا هو بالتحديد ما تعنيه الفنانة توماسكو في إشارتها إلى أن الفن عموماً، وليس الفن البصري فقط، "يكشف عن وجودنا وحضورنا"، والوسيلة هي فتحه مجال الحدس أمامنا، واستخدام أحاسيسنا. وهو ما يعني، من جانب آخر، أنَّ الواقع المحيط بنا هو واجهة صمّاء لن يقودنا التحديق فيها إلى أنفسنا، بقدر ما يعمل على تضليلنا. لهذا كان التجريد بكل اتجاهاته فتحاً جديداً أو أفقاً جديداً للوعي الإنساني.
ويبدو أن هذا المنحى كان واضحاً في عمل خرّيجة أكاديمية الفنون الملكية في لندن، منذ البداية، حين بدأت تلتقط صوراً فوتوغرافية فورية لموضوعات مأخوذة من محيطها المنزلي؛ الأسرّة غير المنظّمة وإطارات النوافذ وأكوام الملابس، ليس لاستخدامها بذاتها بل لتحويلها إلى مادة تؤسّس شتى التجريدات، بعد تقطيعها وتحويلها إلى شذرات، وتركيبها على هيئة أشكال دالّة كما توحي عناوين لوحاتها، مثل "حلم ذهبي جديد" و "أنظر إليها تسقط" و"الذين يحملون العصي يعيشون في بيوت ليست بيوتهم الأصلية"... بل واستخدام عبارة "بلا عنوان" أكثر من مرّة كاسم دال بالتحديد على ما هو فضاء مفتوح لإحساس أو حدس حر من نوع ما، وليس عنواناً بلا دلالة كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى.
ميزة هذه الأشكال الدالة، قبل كلّ شيء، هي أنها تجريد غنائي جريء يحمل طابعاً خاصاً بمبدعة معيّنة، بإحساس ثري باللون لا يقل عن ذلك جرأة. تبدأ هذه التجربة الغنائية بدراسة ملحوظة لعاديات الحياة اليومية التي أشرنا إليها، مثل الملابس وفرش الأسرة، والغاية هي إبداع عمل يوحي بمداخل إلى عوالم النوم والأحلام، ويعمق الهوّة بين ما نفهمه بوصفه "وعياً" وما نفهمه بوصفه "لا وعياً".
في هذه السلسلة الجديدة من اللوحات، المزيد من الحيوية والتأكيد، اللذين عرضتهما الفنانة في سلاسل بمعارض سابقة لها، على أن التجريد متجذّر في العالم المادي إلا أنه يحاول مغادرته. وتجسُّد طريقة إيجاد نسيج من لون مكثّف وأسلوب ناعم وظلال وإيحاء بصور بصرية، يرينا فضاءً يتردّد بين مجيء وذهاب يتخارج على مجال التركيز، ويُبقي إدراك المشاهد معلّقاً، في محاكاة لوضوح أو عدم وضوح خاص بالأحلام والذكريات.
ويعبّر التقريب المفرط الواضح في هذه اللوحات لما تلتقطه من أشياء عن اتجاه نظر مختلف عن الاتجاه الذي تسمح به العين الإنسانية، ويبرز هذا في تحويلها ما كان موضوعاً مادياً ملموساً ذات يوم إلى شكل أكبر، فنرى هذه الخاصية غير المحدّدة والسديمية لضباب الصورة الفوتوغرافية وقد انتقل إلى قماش لوحة. ويتّضح هذا في الأعمال الأكبر على وجه الخصوص حين يبتكر تمازج الألوان نوعاً من الوهم البصري، ونرى العناصر الغامضة (غير الواقعية) تتحرّك أمام أعيننا.
وتعليقاً على استخدام التصوير الفوتوغرافي الذي كان الظنُّ السائد في بداية اختراعه أنه "سيقتل فن الرسم والتصوير"، يمكن القول الآن إن الصورة الفوتوغرافية، ورغم صحة القول بأنها لا تكذب في إمساكها بتفاصيل الموضوع، إلا أنها ليست استثناءً في الوقت نفسه بالنسبة إلى النزعة الذاتية المتأصلة في الوسائط الفنية الأخرى (الشعر والرواية والتشكيل وما إلى ذلك)، لأن الصورة الفوتوغرافية عن طريق خيار تكويني يتخذه الفنان فحسب، تصبح إنشاءً ذاتياً. وتوماسكو تؤكّد هذه الحقيقة بالذات.
وبالجمع بين اقتراحها بأن الفن يجعلنا نكتشف حضورنا، ويفتح مجال الحدس ويوسّع استخدامنا لأحاسيسنا، وبين الجرأة التصويرية والانتقال بين الواقعي وغير الواقعي، بين "الوعي" و"اللاوعي"، بين البصري الملموس وما وراءه، يمكن أن نرى في هذا المعرض خطاباً موجّهاً نحو قضايا أوسع مثل طبيعة المعنى المتغيّرة والخطوط الغائمة بين ما هو حقيقي في العمق وما هو مظهري على السطح، ونلمس خلف كل هذا سعياً إنسانياً أصيلاً نحو ما هو خالد وأبدي وراء صور الزوال والفناء التي تتوالى في كل ما يلمسه الإنسان ويراه أو يحلم به.